الصفا

رغم كونها ليست ناخباً بالمباشر، تحاول بكركي أن تلعب دوراً وتكون صاحبة القرار الأوّل باختيار رئيس الجمهورية الماروني. لكن دور الحاضنة الكَنَسية في تاريخه لم يتجاوز حدّ المحاولات التي لا تجدي نفعاً، ولا تكون الركيزة التي يبنى على قرارها. اعتاد الموارنة اللجوء إلى الكنيسة في لحظات ضعفهم. وهكذا حصل، ففي لحظة تَجلٍّ ديني صارت مقصداً للمختلفين وملاذاً يحتمون تحت سقفه.

بإستثناء محاولات البطريرك مار نصر الله بطرس صفير لم يحصل تدخّل كنسي بالشأن الرئاسي بالمعنى الحقيقي للكلمة. عايش كنائب بطريركي عام ولاية خمسة رؤساء للجمهورية، ومنذ انتخابه بطريركاً عام 1986 وحتى تاريخ استقالته عام 2011، واكب عهد الرئيس أمين الجميل، والحكومة الانتقالية برئاسة العماد ميشال عون، وانتخاب الرئيس رينيه معوّض واغتياله، بالإضافة الى انتخاب الرؤساء الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان، وشهد انتخاب عون رئيساً في ظل عهد البطريرك بشارة الراعي. الشّاهد على فراغين رئاسيين جمع قيادات الموارنة الأربعة (ميشال عون وأمين الجميّل وسمير جعجع وسليمان فرنجية) للتشاور حول الرئاسة بعد انتهاء ولاية لحود، ولم يحقّق النتائج المرجوّة، فاحتسبت فشلاً للكنيسة. لم يتجرّأ البطريرك بشارة الراعي على إعادة التجربة ذاتها، فحاول الهروب إلى دعوة 64 نائباً مسيحياً إلى لقاء في بكركي، وحين تخلفوا عن تلبية الدعوة، لم يجد أمامه إلّا الدعوة للصلاة، فلبّوه وكان اللقاء في قرية "العناء والتّعب" في دير بيت عنيا...

رئاسياً لا وزن لاجتماع دير بيت عنيا، وقد جاء بمثابة حفظ ماء وجه البطريركية المارونية التي لم تتمكّن من إقناع النواب المسيحيين بعقد اجتماع سياسي للبحث في الرئاسة، فاستعاضت عن ذلك بلقاء استفادت فيه من زمن الصوم، وقالت أنّه بمثابة تأمّل روحيّ. هو تأمّل شمل ما يمكن وصفه "الأزمة الوجودية التي يستشعرها المسيحيون في لبنان".

كان واضحا أنّ كلام البطريرك الراعي وإنّ كان بأكثريّته تأمّل دينيّ، لم يخلُ من تلميح إلى الأخلاقيات العامّة التي يجب أن يتمتع بها من أوكلت إليه مهمّة السياسة. وبصريح العبارة ولمرّة واحدة أشار إلى موضوع رئاسة الجمهورية من زاوية طرح الأسئلة على النواب وتأنيب ضميرهم في محاولة بائسة لتحريضهم.

كان الوحيد الذي قدّم مقاربة ما بين اللاهوت والسياسة هو النائب البطريركي المطران أنطوان عوكر. وكانت الخروقات السياسية قليلة باستثناء خلوة الراعي مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، والغداء جنباً إلى جنب بين باسيل ونائب القوات ستريدا جعجع. فيما لا مغزى لكل ما عدا ذلك. فلا يمكن الحديث عن كسر جليد فعلي بين القوات والتيار، وإنّما نهاية تحريم التواصل بعد أن كان كل منهما يطلق حرمة التواصل مع الآخر على مستوى القيادات.

ربما كسر اللقاء المحرّمات، ولكنّه لم ينتهِ إلى أفق مستقبلي، فلم يحدّد لجنة متابعة للمستقبل، لكنه ترك الباب مفتوحاً أمام أي مبادرة قد تأتي من أي طرف سياسي مستعد لتواصل مباشر أو بواسطة بكركي مع الفريق الآخر، وهذا ما قصدته بكركي بقول سيّدها أنّ أبوابي مفتوحة لأيّ تواصل بين الأفرقاء المشاركين.

ثَبّتَ أربعاء بيت عنيا من وجهة نظر فريق مسيحي، أنّ فرضية لقاء المسيحيين واردة، وأنّ المشكلة ليست عند المسيحيين، ولأنّ التفاهم بينهم وارد بالسياسة لا بالطوائف بدليل أنّهم لم يطرحوا مرشحاً، وبقيت الاصطفافات السياسية على ما هي عليه، فلم يخرج القوات عن ترشيح ميشال معوّض، ولا قَبِلَ التيار الوطني بترشيح فرنجية، أظهروا نوعاً من ديمقراطية القبول بحق الإختلاف بالسياسة.

من وجهة نظر هذا الفريق أنّ الاصطفاف الشيعي خلف فرنجية هو المعرقل لعملية التوصّل إلى رئيس يُتّفق عليه، يتمسّك بترشيح فرنجية فلا هو قادر على انتخابه ولا غيره قادر على انتخاب مرشّح آخر. أي أنّه يملك حق الفيتو، لكنه عاجز عن انتخاب رئيس. وحق الفيتو هذا يدفع ثمنه فرنجية من رصيده على الساحة المسيحية، ويظهره كأداة العرقلة الشيعية، ويكبّله حتى عن قدرة إعلان ترشيحه.

تعتبر مصادر التيّار الوطني أنّ إتفاق المسيحيين في بيت عنيا على مرشح، يعني وجود حالة شبيهة بالثنائي، أي حق الفيتو بلا إمكانية إنتخاب الرئيس. تتحدث عن الفرق ما بين الميثاقية الفعلية والميثاقية الشكلية . بالميثاقية الفعلية يجب الأخذ في الاعتبار من يملكون الحيثية النيابية الأكثر وزناً عند المسيحيين، وهذه كانت متوافرة بالعدد الموجود في بيت عنيا، أمّا اعتماد الميثاقية المسيحية العددية فهذه تنمّ عن نوع من تسلّط على موقع لا يمكن التسلّط عليه، لأنّك تخسر بذلك ميثاقية لبنان.

إذا كان لتحرّك بكركي من أهمية فهي في كونها سبق ونالت تفويضاّ من كل بطاركة الكنائس المسيحية في لبنان وهذا نادر حصوله، وجاء بمثابة تأكيد على أنّ قيادة الموارنة هي الأوّلى في الشرق، وأنّ القيادات الدينية كلّفت الراعي بأن يفعل ما يراه مناسباً، فاستعمل هذا التكليف من خلال الروحانيات وليس في السياسة! ومع ذلك فاللقاء لم يحقّق نجاحاً باهراً. فهل يحصل الخرق لاحقاً فيستعين أحد من الأفرقاء ببكركي ليوصل رسالة ما تتعلّق بانتخابات الرئاسة؟ ثمّة فريق مسيحي يعوّل على ذلك، وهو ذاته الذي رأى له مصلحة في إدخال بكركي على خط الرئاسة واللجوء إلى الكنيسة متى سُدّت المخارج الأخرى. محاولة قد تنجح إلّا في الإستحقاق الرئاسي اللبناني حيث الكلمة الفصل باتت خارج الكنيسة ... وخارج لبنان.