هل يكفي أن تضع السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون، اسم "لبنان"، وشماً على ساعدها، لتعلن تعلُّقها بهذا الوطن الذي خدمت فيه ثلاث سنوات صعبة، وشارفت المغادرة، ليحلَّ محلَّها، بعد أسابيع، اللُّبناني الأصل ميشال عيسى؟
وهل يعني موقف الدبلوماسية الأميركية أنَّ "التاتو"، على رمزيَّته، ما هو إلَّا ترجمة لسياسة بلادها حيال لبنان؟ جونسون علَّقت أن لبنان "باقٍ بقاءَ هذا الوشم"، فيما الموفد الأميركي توم برَّاك كان صرّح قبل أيام، متوعِّدًا بلباقة، بأن "لبنان سيصبح جزءاً من بلاد الشَّام"، إذا لم يلتزم شروط الحل الأميركي، وفي مقدَّمها نزع سلاح "حزب الله".
وما كدت أجدُّ لاستكمال مقالتي، عن نتائج مهمة توم برّاك الثالثة في لبنان، حتَّى تلقيت نبأ وفاة بطل المصارعة الحرة الاستعراضية، الأميركي هالك هوغان الذي طغى حضوره في هذه الرياضة على كثر، حتى صار رمزاً لها، لا بل رمزاً أميركيًاً وطنيّاً.
ولكن ما دخل وفاة هوغان في مضمون المقالة؟ لعلَّه جوهر المقالة بعمقها وأبعادها ورموزها ومعانيها ودلالاتها.
قُيِّض لي يومان من الراحة. فأطرقتُ أفكر في أحوال هذه الدنيا، ناساً وبشراً وسياسة، وأسأل لماذا كتب على لبنانَ وأهلِه أن يولدوا في قلب الخطر؟ وما ذنبُه ليحتلَّ قلب منطقة تتنازعها، منذ فجر التاريخ، صراعاتٌ سياسية وقبلية ودينية، تتفجر على أرضه الصغيرة، كأنِّي بهذه الأرض حلبةُ مصارعة؟ ولماذا تسمح الدولةُ الكبرى التي خرجت من رحِم المعاناة والتجارب المرة والدامية، بأن تخون عهدَها في اتّباع ما سنَّته من مبادئ وشرائع تعطي الشعوبَ حقَّها في تقرير مصيرها، وأبرزُها مبدأ الرئيس وودرو ويلسون...
أفكِّر، وأتنقَّل، بلا تركيز، بين محطة وأخرى من محطات التلفزيون الكثيرة، حتى رست الشاشة على "ماتش" مصارعة حرة أميركية استعراضية. تابعته بنظرةِ مراقب أكثر منه مشاهداً، فإذا به الجوابُ عما كنت أسأل عنه... هذه هي سياسة أميركا.
قاعة كبرى تتسع لعشرات الآلاف من الناس، من كلِّ الفئات والأجناس والألوان والأعمار. حشدُ مصارعين بكل ما أنبتت الأرض من عضلات وغرائب وعجائب. أكسسواراتٌ ضخمة مصاحِبة تضفي على العرض حماسةً وتشويقاً، ضمن إبهار هوليوودي في الصورة والمؤثرات. إدخال شخصيات، من مثل دونالد ترامب، أو محمد علي كلاي، في مسرح العرض. ثم يدخل المصارعان الحلبة، والحكَمُ ثالثُهما. فلا يدَعان مخالفة لا يرتكبانها، من رمي أحدهما الآخر بكرسي أو سلَّم مثلًا، أو تدخُّلِ مصارعٍ ثالث لنُصرة أحدهما وهو يهِمُّ بتثبيتِ خصمه، فيفسدُ عليه انتصاراً، أو تحطيم ِكلِّ ما حول الحلبة من مقاعد ولوحات للحكام على رأس كلٍّ منهما... وكلُّ ذلك وسْطَ حماسةِ الجمهور الصاخب، ورضى الحكم عن مَجَرَيات الأحداث.
مخالفات تُفقد رياضة المصارعة الحرة التاريخية القائمة على المنافسة الشريفة معناها، وتجعلُ منها عرضًا للتسلية مركَّبَ السيناريو والأحداث والنتيجة، بهدف التشويق والإثارة، وتحصيل المال، ليس إلَّا...
ألا تلاحظون مثلًا أن الحكم لا يتدخلُ للفصل بين المتصارعين، إلَّا حين يستنجد أحدُهما بالحبل؟؟؟
أميركا تسمح بكلِّ هذه المخالفات، في السياسة كما في المصارعة، ما دامت تُفيد سياستها وتحقِّق مصالحها، من دون أن يحاسبَها أحد، لكنها تردع من يستمر في مصارعة خصمه ويدُ الخصم على الحبال، خادعةً جميع من يرى ويشاهد بأنها تطبّق القانون.
هذه الأمّة الجبّارة الغنية المبدعة في حقول كثيرة، تتجاوز قيمَها ومبادئَها في تطبيق سياستها في الداخل وفي العالم. وهي تجرُّ أذيال خيباتها في الاقتصاد والمال، حتى لتكادَ تعلن إفلاسها، وتعجزَ عن تحقيق ولو انتصار فعليّ حيثما حلَّت واحتلت، سابقاً خصوصاً في العراق وأفغانستان، وفي حربها الدَّائمة – قال – على الإرهاب، وتصطدمُ بمئة عائق وعائق في محاولتها إعادةَ رسمِ خارطةِ العالم وفق أهوائها ومصالحها، لتعيدَ تسميةَ كلِّ منطقةٍ منه مصحوبةً بنعت "الجديد" (الشرق الأوسط الجديد مثلًا) حتى تراكمت عليها الأزمات.
ولا ينقص المشهد الأمبراطوري هذا سوى توسط الإدارة الأميركية مدرَّج الجمهور، كمثل قيصر روما. لكنَّ قيصرها، ويا للأسف، مشغول دائماً إما بالسعي إلى تجديد ولايته، مع كل ما يفرضه ذلك من "خبطات" خادعة تستثمرها حاشيته لتجييرها لمصلحة سعيِه هذا، لعل وعسى، وإمَّا بتمهيد الطريق لمن يخلفُه سواء كان من جماعة الفيل أو من جماعة الحمار.
وثمَّة في لبنان من لا يزال يراهن على أن الثورات العربية والمتغيّرات العسكرية والسياسية التي طرأت في السنتين الأخيرتين، ستجعله المستفيد الوحيد من مردودها، ليقبِض على السلطة، وعلى أن كلَّ التطورات تصبُّ في مصلحة رؤيته الاستراتيجية، فينامُ على سبع خرزات ظهره، غير آبه بشيء، سوى التصريحِ بين حين وآخر، أو التغريد على منصة إكس...
وثمة من ينتظر أيضاً حلولاً ترعاها أميركا، وتنفذُّها فرنسا، وثمة دول تتدخَّل هنا أو هناك. ولكن أيضاً ثمة عدوان إسرائيلي لم يتوقف مذ أعلن وقف إطلاق النار، حتى إذا جاء توم برّاك وقال كلمته ومشى، ترك خلفه مصيراً معلقاً بين القلق والحذر والخوف.
قال: "لا أعرف الضمانات التي سُئلتُ عنها، لكننا لا نستطيع أن نرغم إسرائيل على القيام بأيِّ شيء. المسألة تعود لكم، أي للحكومة وللجميع، عندما تكونون قد سئمتم من هذه المناكفات والمنافسات، حيث يصل الجميع إلى خلاصة لضرورة فهم أكبر وسلام مع الجيران لكي تكون الحياة أفضل".
أي إن برّاك قال ما معناه بصريح العبارة ومن دون لفّ ودوران، إن الولايات المتحدة جاءت بكم إلى الحكم موافقين على مشاريعها، ومن ضمنها مشروعها للبنان، لكنكم حيال مسألة السلاح ما زلتم تناورون وتتلطّون خلف اعتبارات داخلية. سأكون بيلاطس البنطي البريء من دم الصديق لبنان الذي شرَّع، بأدائكم، حدوده، للعواصف الإسرائيلية، فضلًا عن أنكم لم تخطوا أي خطوة عملية في اتجاه السلام مع إسرائيل. جئت أول مرة، وثاني مرة، والثالثة ثابتة.
هذا تفسيري لموقف برّاك الذي على الرغم من أصوله اللبنانية، واسترجاعه جنسيته، لم يأخذ في الحسبان الاعتبارات والتوازنات الدقيقة في لبنان الذي يخشى البعض خطر زواله، فلا يبقى إلا وشماً على ساعد السفيرة، لا سمح الله. ورحم الله هالك هوغان.