في عالم الجريمة المنظمة، لا يعلو اسم على اسم "بابلو إسكوبار"، الرجل الذي بدأ من شوارع بلدته ميديين الفقيرة في كولومبيا وانتهى به المطاف كأحد أغنى وأخطر رجال العالم.

إسكوبار لم يكن مجرد تاجر مخدرات، بل كان ظاهرة سياسية واجتماعية واقتصادية، بل وحتى إعلامية، أثارت الرعب والإعجاب على حد سواء.

فكيف صنع هذا الرجل إمبراطوريته؟ وكيف سقط بعد أن تحدّى الولايات المتحدة الأميركية والدولة الكولومبية معاً؟

وُلد "بابلو إميليو إسكوبار" في أيلول عام 1949 لعائلة متواضعة.

بدأ حياته الإجرامية بسرقة السيارات وبيع شهادات دراسية مزوّرة، وخلال سبعينيات القرن الماضي، انتقل تدريجياً إلى تجارة المخدرات. ومع اتساع الطلب على الكوكايين في الولايات المتحدة، اقتنص الفرصة ليبني إمبراطورية الكوكايين الأكبر في التاريخ الحديث.

بحلول أوائل الثمانينيات، كان "إسكوبار" يسيطر على أكثر من 80% من تجارة الكوكايين في العالم، والتي كانت تدرّ عليه يومياً أكثر من 70 مليون دولار، حيث أصبح واحداً من أغنى رجال العالم وفقاً لمجلة Forbes الأميركية المعروفة بنشر أسماء أثرياء العالم، وقد قُدّرت ثروته حينها بأكثر من 30 مليار دولار (قيمتها الشرائية اليوم تزيد على 100 مليار دولار).

ابتكر "إسكوبار" مبدأ "المال أو الرصاص Dinero o balas" في تعامله مع السلطات، خصوصاً مع الشرطة والقضاة والسياسيين، وكان يخيّرهم بين قبول الرشوة أو الموت. بهذه السياسة، نجح في بناء شبكة ولاء داخل الدولة نفسها، فتمكّن من حماية نفسه وتوسيع تجارته.

بالرغم من دموية إسكوبار، حاول أن يبني صورة إنسانية له داخل المجتمع الكولومبي، فبنى أحياءً سكنية للفقراء، وملاعب كرة قدم ومدارس ومستوصفات، وقدّم مساعدات سخية للفئات المعدومة. وكان سكان بلدته ميديين يعتبرونه "روبن هود العصر الحديث".

لكن خلف هذه الصورة الخيّرة واقع أكثر قسوة. ارتكب إسكوبار مجازر جماعية وتفجيرات في الطائرات واغتيالات لمرشحين رئاسيين وقضاة وصحفيين، وخلق فوضى غير مسبوقة في كولومبيا.

في عام 1982، نجح إسكوبار في دخول البرلمان الكولومبي كعضو بديل في محاولة لتبييض صورته السياسية. لكن الصحافة وعلى رأسها الصحفية "فيرجينا فاليجو"، بدأت بكشف تاريخه الإجرامي، حيث أدّى ذلك إلى طرده من البرلمان، وفتح صفحة من الصراع العنيف بينه وبين الدولة الكولومبية، خاصة بعد أن قررت الحكومة تسليمه إلى الولايات المتحدة.

في خطوة لا تخلو من الغرابة، وافقت الحكومة الكولومبية على تسوية مع "إسكوبار" ببنائه لسجن فاخر خاص به يَسجُن نفسه فيه، وأسماه "لا كاتدرال". لكنه لم يكن سجناً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل كان منتجعاً فخماً يضمّ نادياً رياضياً وملهاً ليلياً وغرف استقبال فخمة استقبل فيها مشاهير كثيرة من العالم منهم استقباله لنجم كرة القدم الأرجنتيني "دييغو مارادونا" عام 1991، واستمر إسكوبار في إدارة إمبراطوريته من داخل سجنه. وعندما قرّرت الحكومة نقله إلى سجن حقيقي، هرب ببساطة وأشعل حرباً دموية مع الحكومة الكولومبية.

بعد سنوات من المطاردة، تمكّنت قوة خاصة كولومبية بمساعدة وكالة الاستخبارات الأميركية ووكالة مكافحة المخدرات من تحديد مكانه.

في الثاني من أيلول عام 1993، قُتل إسكوبار على سطح أحد المنازل في بلدته ميديين برصاصة في الرأس، ورغم الرواية الرسمية، لا يزال الجدل قائماً، هل قُتل حقاً أم انتحر؟

رغم مقتله، بقي إرث "اسكوبار" ولم تَنتهِ تجارة المخدرات في كولومبيا، بل على العكس، انتقلت السيطرة إلى كارتلات أخرى مثل كارتل كالي ومنه إلى الكارتلات المكسيكية.

"إسكوبار" لم يكن مجرد تاجر، بل كان مدرسة في بناء القوّة باستخدام المال والعنف والإعلام وحتى الصلاة في الكنائس، لا زال رمزاً مثيراً للجدل وبطلاً شعبياً في عيون البعض، وشيطاناً دموياً في عيون آخرين.

اسكوبار، مثّل اسطورة ما يمكن أن تفعله الجريمة المنظمة حينما يكون هناك فراغاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وبين الحقيقة والأسطورة، يبقى السؤال "هل تكوّن إسكوبار نتيجة لنظام فاسد، أم كان صانعاً له"؟