تتعدد مشاكل قطاع الطاقة في لبنان، والنتيجة واحدة: لا كهرباء. المؤسسة الوطنية للإنتاج والنقل والتوزيع التي أُعطيت حقاً احتكارياً، مُصابة بداء الخسارة الأبدية؛ وذلك خلافاً لقدرتها المطلقة على التحكم بالعرض والأسعار. وعندما قررت "التنازل" عن جزء من صلاحياتها المطلقة قبل ثلاثة عشر عاماً، ولزّمت التوزيع لفترة زمنية محددة إلى مقدمي خدمات، تفاقمت المشاكل وتحول المؤقت إلى دائم، يجرجر وراءه ذيول الخسائر. "دوامة" لا يبدو أن لبنان قادرٌ على الخروج منها، حتى لو نفذ المطلب التاريخي بإنشاء الهيئة الوطنية لتنظيم قطاع الكهرباء المقرّة منذ أكثر من عقدين.
تسربت في الأيام الماضية بعض الأخبار عن نية مقدم الخدمات في بيروت والبقاع، في تلزيم جزءٍ من مهامه، من الباطن، إلى مقدم خدمات آخر. وهذا ما يمثل "تحايلاً على القانون"، برأي مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة، ومحلل سياسات الشراكة بين القطاعين العام والخاص في "المعهد اللبناني لدراسات السوق"، غسان بيضون. "لكون مثل هذا الإجراء يتطلب المرور حكماً بهيئة الشراء العام"، وما يتبعه من وضع دفتر شروط و استدراج عروض لتلزيم المنطقة المراد التخلي عنها إلى الشركة التي تقدم أفضل عرض بأقل سعر. و"لا يمكن بأي شكل من الأشكال نقلها بهذا الشكل غير القانوني، ولاسيما أن الحديث يجري عن التخلي عن منطقة بكاملها".
تاريخ مليء بالعيوب
بدأ مشروع مقدمي الخدمات في العام 2012، عملاً وتطبيقاً لورقة سياسة قطاع الكهرباء التي وافق عليها مجلس الوزراء في حزيران 2010. فتم التعاقد مع كل من BUS في جبل لبنان الشمالي وشمال لبنان، وKVA في بيروت والبقاع، وNEU في جبل لبنان الجنوبي، والجنوب. ومن ثم أضيفت شركة Mrad في العام 2018 للقيام بالدور نفسه في القطعة (3 ب) في جنوب لبنان. وأجيز التعاقد مع هذه الشركات لفترة انتقالية بين 3 و4 سنوات، تنتهي في العام 2017 كحد أقصى، تنجز خلالها الشبكة الذكية، فتحسّن الجباية، وتخفّض الهدر.
مرت الفترة الانتقالية، و"لم ينجز مقدمو الخدمات الشيء الكثير"، بحسب بيضون. و"استمر التمديد فترة بعد أخرى بشكل مخالف للقانون. على الرغم من ارتفاع التكلفة المرصودة لهذا المشروع من حدود 780 مليون دولار، إلى أكثر من مليار ونصف المليار دولار". شركات مقدمي الخدمات حلت مكان مديريتي التوزيع في كهرباء لبنان، الاولى لبيروت وجبل لبنان، والثانية لبقية المناطق. وكلفت بمهام الجباية، وإصلاح الأعطال، وتبديل المحولات، وتمديد الشبكة. وتتقاضى هذه الشركات الأموال من مؤسسة كهرباء لبنان لقاء الخدمات التي تقدمها.
يوجب العقد بين وزارة الطاقة و شركات مقدمي الخدمات تحقيق الأخيرة مؤشرات أداء (KPIs)، أو ما يعني مقاييس كمية تُستخدم لتقييم أدائها، مقابل الأهداف الاستراتيجية الموضوعة. وتتأثر الدفعات المالية التي تتقاضاها الشركات بعدد المؤشرات المحققة. وفي حال عدم تحقيق المؤشرات الكافية أو المطلوبة يتم حجز مبالغ مالية. وقد اعترف الاستشاري المكلف المساعدة في إدارة المشروع "نيـدز"NEEDS بعدم تحقيق شركات مقدمي الخدمات الأهداف الموضوعة، بعد وصولها إلى مأزق حقيقي في العام 2014، معتبراً أن هذا المشروع يمثل نزفاً مالياً، ويجب وقفه. لم تؤخذ آراء الاستشاري "نيدز" بعين الاعتبار، وتم استبداله بشركة استشارية اخرى تم التعاقد معها بالتراضي. و"استمر المشروع أعرجاً، رغم الاعتراضات الكبيرة عليه من مدراء في مؤسسة كهرباء لبنان"، بحسب بيضون.
إنشاء الهيئة الناظمة غير كاف
التعويل اليوم على إنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء يبدو أيضاً بغير مكانه بحسب بيضون، فـ"على الرغم من أهمية هذه الهيئة وضرورتها، لم تعد كافية. فبين نشوء الفكرة في العام 2002، ووقتنا الحالي انهار وضع الكهرباء، وتراجع بشكل دراماتيكي، ولم يعد يصح تطبيق المعالجات نفسها. إذ فقدت الكهرباء منذ ذلك التاريخ الكثير من الإمكانات والتجهيزات، وخسرت منشآتها وشبكتها ومعاملها. وتكبر المشكلة أكثر مع ارتفاع نسبة الهدر بشقيه الفني (ترهل الشبكة وتقادمها) وغير الفني (التعليق وعدم تسديد الفواتير) الذي يتجاوز 50 في المئة". وهذه المشاكل لا يمكن حلها إلا من خلال "تقسيم المناطق، والسماح لمنتجين من القطاع الخاص إنتاج الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، وتولي مهام التوزيع والجباية. ذلك أن كفاءتهم في إدارة المشاريع أكبر وهمهم المحافظة على استثماراتهم وعدم ضياع الأموال، فيحرصون على تقديم أفضل خدمة بأقل سعر ممكن. ومن الممكن في هذه الحالة استعانة منتجي الكهرباء جزئيا بمؤسسة كهرباء لبنان عبر شراء الكميات المطلوبة وتسديد ثمنها سلفاً، أو تبادل الطاقة معها خصوصاً إذا أصبح هناك استقرار على الشبكة". وهنا يكمن أهمية الدور الذي ستلعبه الهيئة الناظمة بالترخيص للقطاع الخاص لإنتاج الكهرباء بقدرات تجارية كبيرة وليس فقط للاستعمال الشخصي كما يحصل راهنا. والمطلوب بحسب بيضون ألا تُعطى التراخيص على طرق المحاصصة السابقة، والسماح أيضا للبلديات بالتشارك مع القطاع الخاص في هذه العملية.
ما الحل؟
يبقى الحل الأساسي بتغيير نهج الحكومة وتحسين طريقة تفكير الوزراء"، من وجهة نظر بيضون. ذلك أن من يأخذ القرارات لا خبرة تنفيذية لديه بمعنى اوضح أنهم يعملون من وراء المكاتب و يستقون معلومات من مصادر إما جاهلة وإما لديها اجندات معلبة، فيما المطلوب النزول على الأرض. ويكرر بيضون ما قاله لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي عندما سأله "كيف لنا ان نعلم ما تعلمه فيما يخص وضع الكهرباء، فأجبته: "اسأل الذين يعرفون".
كانت الكهرباء ولازالت كـ"السلة التي تعبأ بها الماء". ولعل الدليل الأبرز ان رفع التعرفة إلى 27 سنتاً للكيلو واط ساعة، لم يحسن وضعها ذلك على الرغم من أن كلفة الانتاج في معملي دير عمار والزهراني الاكبرين، اللذين نعتمد عليهما لا تتجاوز 14 سنتاً. فلماذا لا نضع المعامل بكامل قوتها الانتاجية ونحقق ربحاً ونشتري الفيول اللازم؟ لان كل ميغاواط نضعه على الشبكة يضيع نصفه هدراً. ولذلك تبقى كل الحلول غير مجدية ما لم يتم إصلاح منظومة الكهرباء بشكل كامل.