الحديث عن التربية والتعليم في لبنان يأخذنا إلى تاريخ غني وإرث تربوي فريد، لا يتمتّع به إلا البلد الذي يعي صعوبات صغر المساحة والموارد الطبيعية بحيث يكون عليه الاستثمار في تنمية موارده البشرية بالعلم والمعرفة. فمن مدارس "تحت السنديانة" في ساحات القرى إلى مدارس الأديرة والإرساليات الأجنبية الأولى إلى صعود المؤسسات الخاصة ثم تأسيس نظام التعليم العام الوطني، تعكس رحلة لبنان في التعليم تطوُّرَه الاجتماعي والسياسي الأوسع. ولكن بعد عقود من الصراعات، والاضطراب الاقتصادي، والتحوّلات التكنولوجية، يقف قطاع التعليم في البلاد الآن عند منعطف حرج يتطلب نهضة عاجلة ورؤية ثاقبة.

الأسس الحديثة: الإرساليات، القطاع الخاص، الدولة

بدأت رحلة التربية والتعليم الحديثة في لبنان في القرن التاسع عشر، عندما أنشأت الإرساليات الغربية المسيحية، خصوصاً من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ومن ثمّ روسيا، أوائل المدارس والجامعات في البلاد. أدخلت هذه المؤسسات مناهج حديثة، وتعليماً متعدد اللغات، وروحاً من البحث الأكاديمي ميّزت لبنان في المنطقة. وسرعان ما تبعها القطاع الخاص، إذ أسست الرهبانيات والمنظمات العلمانية مدارس أصبحت مشهورة بصرامتها الأكاديمية ونظرتها المتنوّعة الجامعة.

ولكن هذا الإرث من التنوُّع والتميُّز شابته صعوبات تعود إلى التباين في جودة التعليم والموارد البشرية والمادية بين المؤسسات الخاصة والعامة. في 1951 تأسست الجامعة اللبنانية كدار معلمين عليا ومعهد للإحصاء، وفي 1967 أنشئت كلية التربية في الجامعة اللبنانية، التي أُوكلت إليها مهمة إعداد المعلمين للمرحلة الثانوية في المدارس الرسمية، فأصبحت المدارس الرسمية هي الرائدة في التعليم في لبنان لدرجة أن القطاع الخاص سعى للاستعانة بأساتذة القطاع الرسمي لرفع مستوى التعليم لديه.

ندوب الحرب: أيام ضائعة، مواهب مفقودة

خلّفت حرب 1975-1990 والصراعات اللاحقة ندوباً عميقة في القطاع التعليمي، ولا سيّما المدارس. أدّت فترات العنف الطويلة إلى إغلاق متكرر، مع فقدان آلاف أيام الدراسة وتلقي أجيال كاملة من الطلاب تعليماً متقطّعاً وناقصاً. وما زاد الطين بلّة التضرر الكبير للبنية التحتية وخسارة أكثر منها خبثاً هي هجرة المعلمين المؤهَّلين، الذين سعى العديد منهم إلى الأمان والفرص الفضلى في الخارج.

نزوح العقول هذا يستمر في ملاحقة لبنان. فقد ساهم النقص في المعلمين ذوي الخبرة في تدهور جودة التدريس، بينما تركت الآثار النفسية للصراع كلاً من الطلاب والمعلمين يعانون من الصدمات وعدم الاستقرار. لقد أصبح نظام التعليم، الذي كان يوماً ركيزة للفخر الوطني، ضحية أخرى لتاريخ لبنان المضطرب.

العامل الثالث الذي أثّر في جودة التعليم تدخُّل الأحزاب السياسية والميليشيات في المناهج واختبار المدرّسين ووضع الامتحانات ومعايير التصحيح وتقرير الناجحين في الامتحانات حتة يجون خضوعهم للامتحان. وفي هذا تساوت الأحزاب والميليشيات جميعاً.

العراقيل الجديدة ضاغطة

المدارس الرسميّة كملاجئ

كثيراً ما تكرر تحويل المدارس الرسمية ولا يزال إلى مطلع هذه السنة، ملاجئ طوارئ خلال فترات القصف أو التهديدات الأمنية لإيواء النازحين. فكلما تصاعد العنف، كما في حرب تموز 2006، والاعتداءات الأخيرة على الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، تُحوّل المدارس الرسمية بسرعة إلى ملاجئ جماعية للعائلات النازحة. وفي الموجة الأخيرة من العنف، ابتداء من خريف 2024، خُصِّص نحو 40% من المدارس الرسمية ومراكز التعليم المهني في لبنان كملاجئ، ما جعلها غير متاحة للتدريس والتعلم. وقد أدى هذا إلى:

تعطيل هائل للتعليم: نزوح مئات الآلاف من الطلاب من صفوفهم الدراسية، مع إشغال مباني المدارس لفترات طويلة.

الاكتظاظ وإجهاد الموارد: عندما تحاول المدارس استئناف الدروس، عليها استيعاب كل من الطلاب المنتظمين والأطفال النازحين، غالباً في مرافق مكتظة وسيئة التجهيز.

تأخير السنوات الدراسية: غالباً ما يؤجّل بدء العام الدراسي لإتاحة الوقت لتحويل المدارس من ملاجئ إلى استخدام تعليمي.

استيعاب التلاميذ السوريين النازحين

يستضيف لبنان عدداً كبيراً من اللاجئين السوريين، ومنهم نحو نصف مليون طفل في سن الدراسة. ويعتمد معظم هؤلاء الأطفال على نظام التعليم الرسمي اللبناني المنهك أصلاً، والذي اضطر إلى التكيّف من خلال تدابير مثل:

نظام الدوامين: يعمل العديد من المدارس العامة بنظام دوام ثانٍ بعد الظهر مخصَّص حصرياً للطلاب اللاجئين السوريين. ورغم أن هذا قد عزّز فرص تعلّمهم، فقد أدى أيضاً إلى إرهاق المعلّمين، وضغط وقت التعلّم، واستنفاد الموارد.

الصفوف المكتظة: تضاعف حجم الصفوف الدراسية في بعض المناطق، مع إجهاد شديد للمرافق والصرف الصحي. في بعض الحالات، تسكن عائلات متعددة في غرف المدارس، ويسعى التلاميذ النازحون للتسجيل في تلك المدارس المستخدمة كملاجئ، ما يزيد من الاكتظاظ ومن خطر تفشي الأمراض.

البنية التحتية غير الملائمة: يعاني العديد من المدارس الرسمية من نقص التمويل، مع موارد غير كافية، ومبانٍ متهالكة، ونقص مزمن في المواد التعليمية والمعلمين المؤهلين.

معدلات التسرّب المرتفعة: تساهم الصعوبات الاقتصادية، وعمالة الأطفال، وعدم القدرة على تحمُّل تكاليف النقل أو اللوازم المدرسية في ارتفاع معدلات التسرّب بين الأطفال اللاجئين السوريين.

الفجوة الرقمية وفشل التعليم عن بعد

كشفت جائحة كوفيد-19 عن هشاشة البنية التحتية الرقمية في لبنان. فعندما أغلقت المدارس، تعثر الانتقال إلى التعلم عبر الإنترنت بسبب نقص واسع النطاق في الوصول إلى شبكة إنترنت مستقرّة وثابتة، وأجهزة الكمبيوتر، وحتى الكهرباء. وقد كافح المعلمون للتكيف، لأنهم غالباً غير مدربين على أصول التدريس الرقمي. وكانت النتيجة فقداناً واسع النطاق للتعلم وتعميقاً لعدم المساواة التعليمية بين من يستطيعون تحمل تكاليف الحلول الخاصة ومن لا يستطيعون.

مناهج قديمة لعالم متغير

لم يشهد المنهج الوطني اللبناني تحديثاً جوهرياً منذ عقود. فهو لا يزال متجذّراً في التعليم القائم على الحفظ والمحتوى القديم، وغير ملائم لمتطلبات اقتصاد المعرفة في القرن الحادي والعشرين. غالباً ما يكون الطلاب غير مستعدين تماماً للمهن في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات ويفتقرون إلى المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي الأساسية للمواطنة العالمية.

طيف التطرف والطائفية

ليس التعليم في لبنان بمنأى عن الانقسامات الطائفية الأوسع. في بعض الحالات، أصبحت المدارس ساحات معارك للعقائد المتنافسة، بحيث تتشكل المناهج وثقافة المدرسة بفعل أجندات دينية أو سياسية. وهذا يقوّض التماسك الاجتماعي، ويخنق الفكر المستقلّ، ويديم الانقسامات التي طالما عانى منها المجتمع اللبناني .

دعوة إلى نهضة تعليمية

تحديات لبنان هائلة لكنها ليست مستعصية على الحل. فقد أثبت عدد من دول العالم أن الإصلاح الجريء والمنهجي يمكن أن يحول التعليم، وبالتالي المجتمع نفسه. وبالنسبة للبنان، فإن النهضة التعليمية ليست مجرد أمر مرغوب فيه؛ إنها ضرورية.

تحديث المناهج

يجب أن تكون الخطوة الأولى هي المراجعة الشاملة للمنهج الوطني. وهذا يعني تجاوز الحفظ التلقيني لتبنّي التعلم القائم على الاستقصاء والتفكير النقدي والإبداع. يجب أن تكون المعرفة الرقمية ومواد العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في صلب المنهج، جنباً إلى جنب مع التربية المدنية التي تعزز التسامح والتعددية والمواطنة النشطة.

الاستثمار في المعلمين

لا يمكن لأي نظام تعليمي أن يرتقي فوق جودة معلميه. على لبنان إعطاء الأولوية لجذب المعلمين المؤهلين وتدريبهم والاحتفاظ بهم . يتطلّب ذلك رواتب تنافسية، وتنمية مهنية مستمرة، وأنظمة دعم تعترف بالواقع المعقد الذي يواجهه المعلمون. إن استعادة مكانة مهنة التدريس أمر حيوي للنجاح على المدى الطويل .

إعادة بناء البنية التحتية، سد الفجوة الرقمية

تحتاج البنية التحتية المادية والرقمية للمدارس اللبنانية إلى استثمار عاجل . يجب أن يتمتع كل طالب، بغض النظر عن خلفيته، بالوصول إلى فصول دراسية آمنة ومجهزة تجهيزاً جيداً والأدوات الرقمية اللازمة للتعلم الحديث. يمكن للشراكات بين القطاعين العام والخاص والدعم الدولي أن تلعب دوراً حاسماً في هذا التحول .

تعزيز المساواة والإدماج

يُعد الحد من الفوارق بين التعليم العام والخاص ضرورياً للتماسك الاجتماعي . يجب أن تضمن السياسات حصول جميع المجتمعات—بغض النظر عن المنطقة أو الدين أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي—على فرص متساوية للتعليم الجيد . ويجب إيلاء اهتمام خاص للفئات المهمشة، بما في ذلك اللاجئون ، الذين يشكلون جزءاً كبيراً من السكان في سن الدراسة في لبنان .

التعليم الشامل لمكافحة التطرف

يجب أن يكون التعليم قوة للوحدة، لا للانقسام. يجب أن تعزز المدارس بيئات شاملة تحتفي بالتنوع وتُجهز الطلاب لمقاومة إغراء الأيديولوجيات المتطرفة. يتطلب ذلك مناهج تؤكد على القيم المشتركة والحوار واحترام الاختلافات.

الاستفادة من التكنولوجيا

أخيراً، على لبنان أن يتبنى التكنولوجيا لا رفاهيةً، بل كضرورة. فتوسيع الوصول إلى التعلم عبر الإنترنت، ودمج الأدوات الرقمية في كل فصل دراسي، وإعداد الطلاب لوظائف المستقبل، سيكون أمراً أساسياً لقدرة البلاد التنافسية في المستقبل.

وعد التجديد

تحمل النهضة في التعليم اللبناني وعداً بفوائد بعيدة المدى:

التعافي الاقتصادي: يمكن للقوى العاملة الماهرة والقادرة على التكيف أن تدفع الابتكار، وتجذب الاستثمار، وتحفز النمو المستدام.

التماسك الاجتماعي: يمكن للتعليم الذي يسد الفجوات أن يعزز هوية وطنية أقوى وأكثر توحيداً.

القدرة التنافسية العالمية: إن التركيز على العلوم والتكنولوجيا والتفكير النقدي سيضع لبنان في موقع أفضل ضمن اقتصاد المعرفة العالمي .

يقف نظام التعليم اللبناني عند مفترق طرق. فالتحديات حقيقية، لكن إمكانية التجديد أيضاً حقيقية. فمن خلال التعلم من الماضي وتبنّي رؤية جريئة للمستقبل، يستطيع لبنان أن يجعل مدارسه وجامعاته مرة أخرى منارة أمل، ليس فقط لمواطنيه، بل للمنطقة بأسرها.