في تسعينيات القرن الماضي خرج من رحم إعادة إعمار ما خلّفته الحرب الشعواء شعار "البلد ماشي والشغل ماشي والحكي ماشي... ولا يهمك". وقتها، قصد مطلق الشعار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تجاوز الانتقادات باستمرار العمل والتطوير. واليوم وبعد نحو ثلاثة عقود من الأزمات والانهيارات، ما زال "البلد ماشي"، لكن متهادياً. وأكثر ما يفضح مشيته غير المتّزنة، المعتمدة على خطوات متقطّعة، هو الخلل الفاضح بين ميزانَي المدفوعات والتجارة.
وفقاً لأحدث تقرير نقدي صادر عن مصرف لبنان، سجّل ميزان المدفوعات في الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، فائضاً تراكمياً قدره ثمانية مليارات و143 مليون دولار. هذا يعني أن الأموال التي دخلت تفوق تلك التي خرجت بأكثر من ثماني مليارات دولار. وهو رقم كبير جداً، يُفترض به أن ينعكس نمواً مطّرداً في الناتج المحلي الإجمالي، وتحسناً ملحوظاً في نشاط مختلف القطاعات، ولا سيّما الانتاجية منها، وزيادة في فرص العمل وتراجع مستويات البطالة، وتحقيق الدولة عائدات كبيرة، تساعدها على معالجة المشكلات الكثيرة المتعلقة بإدارة الديون وزيادة الإنفاق الاستثماري. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ولن يحدث.
العجز التجاري يتفاقم
في الموازاة أظهرت إحصاءات التجارة الخارجية، الصادرة عن المجلس الأعلى للجمارك للأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي أن عجز الميزان التجاري بلغ ستة مليارات و600 مليون دولار، بزيادة نحو 15 في المئة عن الفترة نفسها من العام 2024. وهذا يعني أن ما خرج من دولارات لتمويل الواردات يفوق تلك التي دخلت من الصادرات بأكثر من ستة مليارات ونصف المليار دولار. فكيف يمكن أن يكون ميزان المدفوعات ايجابياً في ظل هذا العجز الكبير في الميزان التجاري، وخصوصاً أن الأخير ليس أحد ثلاث حسابات تُشكل ميزان المدفوعات فحسب، إنما اكبرها؟!
التناقض في ميزاني التجارة والمدفوعات
ميزان المدفوعات يتشكل من ثلاثة حسابات رئيسية، هي:
- الحساب الجاري، الذي يتضمن الميزان التجاري بشكل أساسي، وصافي الدخل على الاستثمارات.
- الحساب المالي، يقيس التغيّر في الملكية المحلية للأصول الأجنبية، والملكية الأجنبية للأصول المحلية. ويعتبر الذهب واحتياطيات النقد الأجنبي من أبرز هذه الأصول. إضافة طبعاً إلى أسهم الشركات وبقية السلع الاستراتيجية.
- حساب رأس المال، يتضمن جميع المعاملات المالية الاخرى، التي لا تؤثر على الانتاج الاقتصادي للدولة. وذلك على غرار التحويلات الدولية المتعلقة بحقوق الحفر، والعلامات التجارية، وحقوق الملكية الفكرية. ويعد هذا الحساب أصغر مكوّنات ميزان المدفوعات.
ما يحصل في لبنان هو تحقيق فائض كبير في الحساب المالي، يقوده التغيُّر في أسعار احتياطي الذهب الذي يملكه مصرف لبنان. فمتوسط سعر أونصة الذهب ارتفع من 2183 دولاراً في الاشهر الخمسة الاولى من العام 2024، إلى حدود 3023 دولارا للفترة نفسها من العام الحالي. وبما إن مصرف لبنان يملك 9 ملايين و221 ألف أونصة ذهب، يكون حساب الذهب قد ارتفع إلى نحو 28 مليار دولار. وإذا أضفنا إلى الذهب بقية الأصول الأجنبية في مصرف لبنان كالأوراق المالية الأجنبية غير المقيمة التي يحتفظ بها، والعملات الأجنبية، والودائع لدى البنوك المراسلة والمنظمات الدولية. يكون صافي الأصول الأجنبية التراكمي لمصرف لبنان قد ارتفع بمقدار سبعة مليارات و253 مليون دولار، بينما ارتفع صافي الأصول الأجنبية التراكمي للبنوك التجارية بمقدار 889.6 مليون دولار. فيكون الفائض في ميزان المدفوعات المحقق مليارَين و143 مليون دولار.
الفائض نظري
المشكلة أن الجزء الأكبر من الفائض المحقق في ميزان المدفوعات، نظري، لا يمكن "تقريشه"، وهش إلى درجة كبيرة. ذلك ان المسّ بالذهب ممنوع حسب القانون رقم 42 الصادر في العام 1986. والارتفاعات المحققة تعتمد على أصل يتأثر بالعديد من العوامل والظروف الدولية ولا يمكن للبنان ان يتحكم به. وكما ارتفع نتيجة الحروب وهرب المستثمرين إلى الملاذات الآمنة فيمكن أن ينخفض عند انتفاء الأسباب.
لذلك لا يمكن للبنان البناء على الإيجابية المحققة في ميزان المدفوعات، واستمرار إهمال العجز الكبير المحقق في الحساب الجاري. فالمعيار الأساسي لبدء تعافي الاقتصاد هو تخفيض العجز في الحساب الجاري، وهذا لا يتم إلا بالعمل الجاد على مجموعة من الخطوات أبرزها:
- معالجة الخلل الفاضح في الميزان التجاري:
فبالنظر إلى تطور الصادرات اللبنانية خلال الأشهر الخمسة الاولى من هذا العام، نرى أن حصة المجوهرات والمنتجات المعدنية من مجمل الصادرات بلغت 37 و17 في المئة على التوالي. و هاتان السلعتان اللتان تشكلان أكثر من نصف الصادرات وبقيمة 776 مليون دولار من أصل صادرات بقيمة 1.5 مليار دولار، لا تحملان أي قيمة مضافة. فالأولى تتضمن تصدير ذهب خام يعتقد على مستوى واسع انه ناتج عن إخراج الأموال، والثانية هي عبارة عن الخردة. فيما صادرات المنتجات الغذائية بقيت بحدود 12 في المئة من مجمل الصادرات.
في المقابل تستمر وتيرة الاستيراد بشكل كبير جداً، بما يعكس نهم الاستهلاك المحلي. فقد استورد لبنان خلال الخمسة الأشهر الاولى من العام الحالي بضائع بقيمة ثمانية مليارات و100 مليون دولار، مقابل سبعة مليارات في الفترة نفسها من العام الماضي وبزيادة نسبتها 16 في المئة. وحتى إذا أخذنا معدل التضخم العالمي بنسبة 6.7 في المئة في الاعتبار، تبقى الزيادة المحققة في الواردات 9.3%. وبالنظر إلى تطور الواردات الأعلى وزناً إلى لبنان خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025، يتبين ان لبنان استورد معادن بقيمة تناهز ملياري دولار، منها مجوهرات بقيمة 1.5 مليار دولار، أغلبها معدة لإعادة التصدير. هذا فضلا عن الارتفاع الكبير في استيراد المحروقات نتيجة الاعتماد المفرط على السيارات في النقل العام، وعلى المولدات الخاصة لإنتاج الكهرباء.
- إصلاح شبكة النقل العام والكهرباء
فمن دون هاتين الخطوتين سيبقى لبنان يستورد سنويا ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار من المحروقات. لا تحرق هباءً فحسب، انما تسبب تلوثا يدفع لبنان واللبنانيون ثمنه غالياً على علاجات الأمراض وفي مقدمتها السرطان.
- جذب الاستثمارات الخارجية
وهذا لا يتحقق إلا من خلال تثبيت الأمن والأمان وتقديم الحوافز للمستثمرين وتسهيل المعاملات وتحسين وضع القضاء.
- تحفيز السياحة
وهو ما يتطلب بدوره تحسين نوعية الخدمات وتوفير البنى التحتية من ماء وكهرباء وبيئة نظيفة.
ما لم تتحقق الإصلاحات ستبقى كل المؤشرات الإيجابية نظرية، لا تقدم أي قيمة مضافة للاقتصاد، بل بالعكس قد تكون تمويهاً جميلاً يعمي العيون عن مكافحة التسوس الذي يغزو الاقتصاد.