في عالم الاستخبارات لا شيء يُترك للصُدفة. وكلّما تصاعَد التوتر بين إيران وإسرائيل، تَكشّفت خيوط لُعبة شبحيّة يُديرها عملاء في الظلّ، وعقول تخترق الحدود والجدران بسلاسة. السؤال اليوم لم يعد تقليديّاً كالعادة عمّا إذا كان لإسرائيل عملاء داخل إيران؟ بل كيف نجحت اسرائيل في زرعهم وكشف تحرّكات كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين؟ ولماذا فشلت إيران في كشفهم؟

منذ سنوات، تتوالى الضربات النوعية داخل الأراضي الإيرانية، من اغتيال علماء نوويين مثل محسن فخري زاده، إلى تفجيرات غامضة طالت منشأتَي "نتانز وأصفهان"، مروراً باختفاء وثائق سريّة من قلب الأرشيف النووي في طهران. عمليات بهذه الدقة لا تتمّ بسلاح الإشارة فقط، بل من الداخل، وينفّذها أشخاص يعرفون الزمان والمكان وكيف يَنفذون إلى الموقع والمعلومة.

اتُهِم جهاز "الموساد" (الوكالة الإسرائيلية للاستخبارات) بتجنيد شبكات داخل إيران تتكوّن من عناصر محليّة بعضهم معارض للنظام أو ناقم عليه، وبعضهم الآخر بفعل الابتزاز أو الإغراء المادي، وبعضهم الثالث من الأقليات المهمّشة في مناطق متوتّرة أصلاً.

وقيل إن الموساد استخدم دول الجوار مثل أذربيجان والعراق كمحطات خلفية لتجنيد العملاء وتدريبهم قبل إرسالهم إلى الداخل الإيراني برّاً فيما طول الحدود غير المحكمة يتيح هامش تحرّك واسعاً وسهلاً.

الحجم الهائل للمعلومات والتسريبات عن منشآت إيرانية تُثبت أن شيئاً عميقاً حدثَ داخل إيران

نجحت إسرائيل أيضاً، بالتعاون مع أجهزة استخبارات غربية ومن خلال أدوات تجسّس متطوّرة، في زرع فيروسات إلكترونية مثل "ستاكسنت Stuxnet "، وهو أول فيروس معلوماتي خبيث بتشفير شديد التعقيد استهدف منشأة "بوشهر" النووية وبعض الأنظمة الصناعية، فدمّرت أجهزة الطرد المركزي النووية.

وحُكِي أيضاً عن اختراقات حصلت داخل مؤسسات أمنية وعسكرية إيرانية، وهذا ما يفسّر تسريب خطط استراتيجية أو معلومات عن مواقع حسّاسة للبرنامج النووي الإيراني، وقد أعلنت إسرائيل في الماضي أنها استولت على أرشيف إيران النووي من طهران، ولم يكن ذلك مجرّد استعراض. فالحجم الهائل للمعلومات والتسريبات عن منشآت إيرانية، تُثبت أن شيئاً عميقاً حدثَ داخل إيران.

باتت إسرائيل تعتمد على معلومات استخباراتية من الداخل أكثر من صوَر الأقمار الصناعية بالرغم من تشدّد النظام الأمني الإيراني. إلا أن التضخّم البيروقراطي وتعدّد الأجهزة الأمنية وتضارب مصالحها، جَعلَ من الصعب التنسيق والتصدّي لاختراقات مُنظّمة كالتي حصلت، كما أن تصاعد الصراع الداخلي بين التيّارات السياسيّة في طهران يُربك أساساً أجهزة الدولة ويضعِف مناعة منظومتها.


أما الصراع بين إيران وإسرائيل فقد تخطى الطائرات والصواريخ ليصبح معركة جواسيس وبيانات ومعلومات، أما الاختراق الإسرائيلي للداخل الإيراني ليس مجرّد تكتيك، بل سياسة استخباراتيّة كاملة هدفها شلّ القدرات من الداخل والتأثير على القرار من الداخل أيضاً، من خلال تفجير الثقة داخل النظام نفسه.

وحين تصبح الثقة عِبئاً على النظام، يتخطّى الاختراق الإسرائيلي إضعاف المنشآت ليصل إلى هزّ الثقة الداخلية. وحين تفشل الأجهزة الأمنية في حماية مواقعها، ويُغتال كبار العلماء والقادة في وقت واحد، يكون النظام أمام تحدٍّ وجوديّ يتجاوز مفهوم "الحرب التقليدية".

أمام هذا الاختراق الإسرائيلي المتعدّد الأوجه تَجد إيران نفسها في اختبارٍ استراتيجي لا يقتصر على تعزيز الحماية الأمنية فقط، بل يفرض مراجعة شاملة للبنية الاستخباراتيّة والسياسيّة على حد سواء. ويربح المعركةَ مَن يسبق في الحصول على المعلومة وتحليلها وفي حماية الأسرار وكشف الخَصم قبل أن يتحرّك.

الحرب الاستخباراتية تُخاضُ بالعقول قبل الأدوات

أول ما تحتاجه طهران هو توحيد أجهزة الاستخبارات المتعدّدة تحت مظلّة تنسيق وطني عالي المستوى يُنهي الفوضى والتضارب، ويمنع استغلال الثغرات البيروقراطية. وعليها أيضاً الاستثمار في الأمن السيبراني والتكنولوجيا الحديثة بعدما أصبح ضرورة وجوديّة خصوصاً مع تصاعد التهديدات الإلكترونية التي قد تُدمّر منظومات بالغة الحساسيّة دون إطلاق طلقة واحدة.

كما أنه لا يمكن أن تتجاهل إيران العامل الداخلي. فالمعارضة الشعبيّة والفساد والتهميش السياسي لبعض الجماعات، كلّها تربة خصبة لتجنيد العملاء. لذلك فإن إعادة تعزيز ثقة المواطنين بالدولة والاستثمار في الانفتاح الداخلي، يُشكّل خطّ دفاع متيناً وصلباً وقوياً ومُتماسِكاً ومُحكَماً، لا يقلّ أهمية عن أي جهاز رصدٍ أو قمرٍ صناعيّ.

يبقى أن تدرك إيران أن الحرب الاستخباراتية تُخاضُ بالعقول قبل الأدوات، وان استعادة المبادرة لا تعني فقط صدّ الضربات، بل بناء قُدرة ردع معلوماتية تُربِك الخَصم، وتُعيد رَسم قواعد اللعبة من جديد.