علي شكر 

تكثُر المسمّيات التي تُستغل من خلالها حاجات الشعوب الفقيرة، والتي غالباً ما تكون أهدافها لا تصبّ في مصلحة تلك الشعوب نفسها، بغضّ النظر عن الإستنسابية بما يسمى الـ" الإغاثة" وتوزيع المساعدات وارتباطها الوثيق بالأجندات والمصالح الدولية، وما حصل إثر الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا خلال الأيام القليلة الفائتة خير دليل على ذلك.

جديد "الإحسان المشروط" اليوم هو التبرع بالملابس، هي "البالة"، نعم "البالة"، ولمن لا يعلم فحتى الإحسان بات يقسم بطريقة طبقية مقززة، فبالة غانا وكينيا لا تشبه بالة أوروبا وأميركا وبعض الدول العربية، وهنا نتكلم عن الإستيراد وليس التوريد.

من أين انطلقت فكرة البالة على بعد 5 قرون زمنية من الآن، إنطلقت فكرة "البالة" من القصور حيث كانت تقدم قطع الملابس القديمة من قبل الملوك والأمراء وحاشيتهم إلى "العبيد" أو خدم القصور والسرايات، كبديل عن أجورهم، حيث كانت صناعة الألبسة قليلة جداً وبموارد قليلة، بدءاً من الحرير والجلود وغيرها، ليتطور الأمر لاحقاً مع وفرة الملابس في الأسواق، ويصبح لباس الخدم جزءاً من "برستيج" علية القوم، والتي تقوم على "أتيكيت" معين يفرض أن يكون الخادم حسن المظهر يلبس زيّاً منسّقاً مع زملائه بنوعية جيدة لكي لا تخدش مناظرهم عيون زوار القصور. ولاحقاً ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى ومروراً بالحرب العالمية الثانية برزت الحاجة الى الألبسة، حيث اضطرت المصانع وعدد كبير من العمال (غالبيتهم من النساء) فرضاً وطواعية، إلى تحويل القسم الأكبر من خطوط انتاجهم إلى تفصيل وخياطة الأمتعة العسكرية من بذات ومعاطف وغيرها، ما أظهر فجوة كبيرة في سوق الملابس حينها. وخلال الحرب العالمية الثانية، بدأت "أسواق البالة" بالظهور في أوروبا حيث كانت غالبية الألبسة المباعة، عبارة عمّا يتم الاستيلاء عليه أو تركه من أمتعة من قبل الغازين أو المغزيين. ومن ثم توزعت لاحقاً على القارات الأخرى بدءًا من أميركا الشمالية لتشمل كل القارات وتنتشر بشكل كبير في دول العالم الثالث في أواخر تسعينات القرن الفائت.

كثرت أسواق البالة في لبنان مع بدء الأزمة الإقتصادية التي تتجلّى تداعياتها يوماً بعد يوم (دولار السوق الموازية 81200 ليرة لبنانية) وعجز طبقة كبيرة من اللبنانيين كانوا يُحسبون من الطبقة الوسطى، بدأ ظهور عشرات محلات بيع الملابس المستعملة "بازار" موزعة على مختلف المناطق اللبنانية. فمن كان راتبه يتجاوز الـ1000 دولار شهرياً، وبات لا يتعدى اليوم الـ100 دولار (غالبيتهم من موظفي القطاع العام)، فمن الطبيعي أن يبحث عن سُبل عيش لـ"تمرير المرحلة" كما تصف الغالبية العظمى منهم، فيقلص مرغماً جودة استهلاكه، بدءاً من المأكل والملبس والتدفئة وصولاً إلى النقل. وقد يجد بعض من اعتادوا على لبس "البراندات" (العلامات التجارية المشهورة)، معطفاً أو بنطالاً من الماركة نفسها في "البالة"، أو ربما يجد لبساً بنوعية جيدة وبسعر أقل بكثير مما هو جديد ومقلد، وقد تكون أكثر ضياناً من غيرها، فبين "كنزة ماركة" وأخرى تقليد يفضل أحد موظفي القطاع العام شراء المستعملة "إذا كانت بحالة جيدة" وفق تعبيره. ويشير الموظف نفسه، إلى أن كيلو الثياب المستعملة في "البازار" بدولار واحد، أي بإمكانه شراء الكثير من الملابس وخصوصاً الصيفية منها ولا تتعدى سعرها الـ 3 دولارات أميركية، في حين أن أي قطعة ملابس واحدة مقلدة، سعرها يتجاوز الـ 4 دولارات. ويقول لـ"الصفا نيوز": "مطلع فصل الشتاء اشتريت من البالة من ماركة معينة لم يتجاوز وزنها الـ 2 كيلو بما يقارب الـ60 ألف ليرة لبنانية (دولار السوق الموازية حينها بـ33 الف ليرة تقريباً)، وهي بالتأكيد أفضل من اي "جاكيت" جديدة كنت سأشتريها من السوق المحلي".

تأثير البالة على سوق الملابس الجديدة من جهته، يُطلق "مروان" صاحب محل لبيع الملابس الجديدة صرخته عبر الـ "صفا نيوز"، مشدداً على أن واحدة من أكثر القطاعات تأثّراً بالأزمة الإقتصادية هي الملابس، لأن الطبقة الوسطى والتي غالباً ما يعتمد على قدرتها الإستهلاكية الكبيرة، باتت تعتبر الملابس "كماليات" في ظل ما تعانية اقتصادياً وتفضّل أن تكون أولويتها للغذاء والتدفئة. ويتفهم مروان، إقبال الناس على محال بيع الألبسة المستعملة "البالة" والتي باتت منتشرة كثيراً، فيما يوضح بأن الإقبال على شراء الألبسة الجديدة، يكاد يكون "شبه معدوم" وقد يقتصر أحياناً على الأعياد والمناسبات. ويلفت إلى أن هامش أرباحه كتاجر للألبسة قد تقلّص كثيراً على الدولار، نتيجة قلَّة الإقبال، وهذا ما يدفعه إلى "حرق الأسعار" وفق تعبيره، بالإضافة إلى تقليص مصاريفه التشغيلية بدءاً من الإستغناء عن بعض الموظفين والإقفال باكراً (خلال ساعات الليل الأولى)، خوفاً من فاتورة الكهرباء.

ملابس لا تصلح حتى للتلف! مع التطور الصناعي الحديث على مستوى مواكبة الـTrend"، تلجأ كبريات مصانع الألبسة التابعة لأشهر دور الأزياء العالمية إلى صناعة كميات كبيرة من الألبسة بمواد أولية تتقصد أن تكون "رديئة" نوعاً ما، فهي مُخصصة للاستخدام مرةً واحدة أو مرتين فقط وغالباً ما تكون مصنوعة من البلاستيك والتي تشكل خطراً حقيقاً على البيئة عقب إتلافها. يتزامن ذلك كله، مع استغناء عدد كبير من دور الأزياء العالمية عن استخدام جلود وفراء بعض الحيوانات بفضل القوانين البيئية التي تمنع ذلك والتي باتت أكثر فعالية وتضرب بسيف الإعلام. ويكمن تهديد "البالة" الأكبر بهذه النوعية من الألبسة، والتي يتم توزيعها بين الملابس المستعملة الأخرى من أجل التخلص منها حيث يصعب إعادة تدويرها في البلدان المصنّعة، كما أن إتلافها مُكلف على المُصنّع نفسه، فيتفضل بها إحساناً من أجل أن يرمي تلوثها في بلدٍ غير بلده وخصوصاً الدول التي لا تحكمها قوانين بيئية صارمة، حيث ترتفع جبال الملابس داخل مكبات النفايات ليتم إحراقها لاحقاً. وتقسم "البالة" وتوضب حسب الشعوب المستوردة، فبالة أوروبا وأميركا والخليج العربي مثلاً يُصدّر ما هو جيد منها إلى بعض الدول الآسيوية وبعض الولايات الأميركية، أما ما هو دون المتوسط من حيث النوعية وكثرة الإستهلاك فيصدّر إلى دول العالم الثالث وبعض الدول الفقيرة جداً. وبالعودة إلى السوق اللبنانية من حيث الإتلاف فقد أشار أحد العاملين في واحد من بازارات الألبسة، إلى أن عدداً كبيراً من اللبنانيين يسألون عن ما يمكن بيعه بنصف سعره ويكون مخصصاً للتلف من أجل الاستفادة منه في التدفئة! في ظل الإرتفاع الكبير الذي تشهده أسعار المحروقات والحطب. وهو الأمر الذي ينطبق على النفايات أيضاً رغم مخاطرها الصحية نتيجة الحرق خصوصاً في الغرف المغلقة، حيث سجلت حالات اختناق جراء هذا السلوك في عدد من المناطق اللبنانية.