لستِ شجرة اصطناعيَّة، ولم أقتطعكِ من غابة... بل أنزلتُك من حديقة القلب، حيث ينمو معناك ميلاداً تلو ميلاد، لا لأزيِّن بك الورق فحسب، بل ولأتأمَّل جراحات علَّقتها عليك مذ وعيتُ بأحوال هذه الدُّنيا، علَّنا إذا نظرنا إليها مسفوحة أمامنا، نجد معاً علاجاً شافياً لها، فلا يبقى صوت أنينها يتماهى والنَّبضات.

كنت هممت، أيَّتها الخضراء المكلَّلة بثلج العيد، بالكتابة إليك، حين خرج شيطان من وكره ليعتدي على الجيش اللُّبنانيِّ وأهلنا في الجنوب، مستكملاً بازار الأعمال الحربية، بعدما عجز عن فرض سلطانه، على الرغم من فائض القوة الذي يتمتع به، والدعم الدولي غير المسبوق المتوافر له. فلا فرق بين الشياطين، كلهم واحد بوجوه متعددة، كلُّ وجه ساكت عن الآخر، كمثل السَّاكت عن الحقِّ.

بغصن منك، وبنبضة منِّي، دعينا نداوي جراحنا النَّازفة شهادة، يُعمِل فيها تقاعس أهل السُّلطة عن اتِّخاذ قرار بالحسم النِّهائي، مهما كلَّف الأمر، نكأً وتهشيماً، والمواطن الصَّابر على آلامه وقوافل شهدائه، يردُّ بصدره براثن الشَّياطين الوحوش، ويعضُّ على وجعه المتأتِّي من طاعنيه في الظَّهر.

أيَّتها الصَّنوبريَّة الملمس السِّنديانيَّة الحضور، كم كنت تتربَّعين على قلوبنا ودهشاتنا، وأنت تتحوَّلين قبلة كلِّ منزل، فإذا بتجَّار الدِّين والسِّياسة وعبدة القرش، يجعلونك طعماً لفقراء العقول الَّذين تسبق أيديهم إلى جيوبهم عملَ خليَّة واحدة في عقولهم، فيروحون يبذِّرون أموالهم من أجل الوجاهة أو "التَّفشيخ" ليس إلَّا، متناسين العيد وصاحب العيد الَّذي ما حلَّ إنساناً بيننا إلَّا ليعلِّمنا التَّواضع والتَّقشُّف والمحبَّة، وخصوصاً محبَّة الضَّعيف والفقير والمحتاج والحزين والقلق والمجروح المألوم... أو ينصبونك فخّاً للنَّفاريش (بعد إذنك جورج جرداق مطلق هذا التَّعبير على حديثي النِّعمة)، يتطاوسون علينا ويتبجَّحون ويتشاوفون ويستعلون... ويستعملون مالهم المكدَّس سبحات يقيمون بها لإلههم الجديد، تساعيَّات وصلوات.

هلَّا لوَّحتِ أنت بجذعك، وصرختُ أنا من كلِّ قلبي، أن يا هؤلاء لا تحجبوا عن أعيننا حقيقة ولادة المخلِّص، ولا تبهروا أنفسنا ببزَّاتكم اللَّمَّاعة وذهبكم الأسود كقلوبكم، وسهراتكم العامرة بالفجور؟ دعونا، على الأقلِّ، لا نعلق بزحمات السَّير الَّتي يسبِّبها تكالبكم على الشِّراء، في الأسواق، في وطن "المولات" والمحالِّ والشَّركات المساهمة في إفساد معنى العيد علينا.

ويا أيَّتها الشَّجرة المباركة كمثل زيتونة في بستان، أو كخميرة في معجن جدَّتي، كم كانت فرحتنا بتزيينك عفويَّة بريئة، تتسابق الأيدي والقلوب للاحتفاء بك وبالمغارة رمزاً لهذا العيد المجيد، وكم رتَّلَتْ ساحات قرانا جميعاً وشوارعنا جميعاً، خاشعة ساجدة، فإذا بمن أخلوا ساحات وشوارع لكفار وجهلة ومتعصِّبين، يتلطَّون خلف نَصبك عالية في وسط مدينة، ليكفِّروا ربَّما عن ذنب، أو لتمعن وجوههم الصُّفر في الخداع والكذب على النَّاس وإخفاء حقيقة ما يضمرون ويبيِّتون... من دون أن ننسى ابتساماتهم الحربائيَّة المخاتلة.

فبنور نجمتك، وبما أوتيت عيناي من تحديق... فلنخبر هؤلاء اليوضاسيِّين الهيرودوسيِّين، أنَّ مسرحيَّتهم فاشلة نصّاً وحواراً وإخراجاً وتمثيلاً. ليستحوا قليلاً، لأنَّنا لا نريد لهم لا الموت ولا الأذى، بل الهداية والعودة عن الضَّلال.

ويا أيَّتها الشَّجرة الَّتي يقرأ فيها كلُّ امرئ بساطته وحقيقته، فيعود إلى الطفل الَّذي في داخله، يصلِّي مثلما يفرح بلعبة، ويستأثر بالعيد كأنَّه حلَّ له وحده، فيحياه مملوءاً به، تعالي نتضرَّع معاً إلى طفل المغارة، كي يبعد كثراً من متولِّي شأننا العامَّ عنَّا، فيروحون يلعبون كلٌّ قدَّام بيته، لأنْ كفانا لعبهم بمصيرنا وغدنا وأعصابنا: هذا يريد كرسيّاً يؤبِّد عليها قفاه، وذاك يبتغي نفوذاً وسلطة له ولآله في الوطن والمهجر، وذلك سعيد بأنَّه وُضع في الواجهة كي يرغي ويزبد كلاماً وتنظيراً، فيملأ الفراغ بـ "طقِّ الحنك" المناسب، حتَّى إذا ما قرر الَّذين استخدموه لهذا الدَّور، تأديته بأنفسهم، قذفوا به إلى الصُّفوف الخلفيَّة، أو إلى الكواليس، ليتولَّى أحدهم "تعبئته" من جديد، كمن يحرِّك "زنبرك" لعبة، في انتظار فراغ جديد.

شجرتي الجميلة... ختاماً أعيدك إلى القلب، بعدما شرَّحنا بعضاً من جراحاتنا الكثيرة، وأترك زاوية للأمل، في حجم الزَّاوية المخصَّصة لك في كلِّ منزل، بألَّا يحلَّ العيد المقبل إلَّا وقد برئنا من كلِّ ألم وهمٍّ وغمٍّ، إن لم يكن بإرادتنا كبشر، فبأعجوبة... ولا أظنُّ أنَّ زمن الأعاجيب قد ولَّى.