حين تحدّث العرف عن المناصفة في لبنان لم تكن الغاية تحويل المواقع الى مغانم للنافذين بل تثبيت التعددية بوجه الآلة البيولوجية وسيف العددية. هذا الهاجس لم يأتِ من عدم بل من المشهدية الفاقعة للواقع المجتمعي والسياسي في دول هذا الشرق حيث منهجية الانصهار والطمس إلى حدّ الإلغاء هي السائدة. فكان المسيحيون يعانون من الابتزاز القائم على اشتراط التخلي عن الدور كي يسلم الوجود، فيما شكّل لبنان دون سواه مساحة تفاعلية بين مكوّناته حيث الدور في صلب الوجود.
بعد الحرب اللبنانية، أتت وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لتكرّس بالنصوص المناصفة كمبدأ دستوري وإن اعتُبِر انتقالياً بانتظار الوصول الى إلغاء الطائفية السياسية غير أنه نهائي مع الحديث عن مجلس شيوخ على أساس طائفي. إلا أنه مع الانقلاب على الطائف، راح الاحتلال السوري وحلفاؤه يقضمون المناصفة في الجوهر - وخصوصاً في التمثيل النيابي - وإن حافظوا عليها بالشكل. هذا ما دفع البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير لإطلاق مقولته الشهيرة بعد الجلاء السوري وقيام ثورة الأرز وعشية الانتخابات النيابية عام 2005: "الدستور أعطانا 64 نائباً مسيحياً ومن حقنا إيصالهم بأصواتنا" والغاية ليست عدد النواب بحد ذاته بل التساوي الفعلي وليس الشكلي بين المسيحيين والمسلمين في شراكتهم في السلطة.
في ظل الاحتقان السياسي بعد هذه المرحلة وفي محاولة "تقريش" فائض القوة من قبل "الشيعية السياسة" في ظل "عنجهية السلاح" لتحقيق مكتسبات بنيوية في النظام، بدأ بعضهم يروّج لـتكريس "المثالثة" بين الشيعة والسنة والمسيحيين عوض "المناصفة". فكانت المرة الأولى التي جس النبض فيها بشأن "المثالثة" خلال مؤتمر سان كلو الفرنسي صيف العام 2007 والذي شارك فيه كل الأفرقاء السياسيين بما فيهم "حزب الله".
منطق "المثالثة" أَضحى "عدة شغل" بعض الأطراف لتحقيق مكتسبات ذاتية وهو عملياً يضرب روحية "المناصفة" وغايتها
على أرض الواقع، راح "الثنائي" الشيعي يمارس سياسة القضم لفرض "المثالثة" بفعل الأمر الواقع. الدليل الأوضح، بدعة تمسكه بحقيبة المال في الحكومات الأخيرة وإعطاء صلاحيات غير دستورية لوزير المال بحيث تحوّل توقيعه أبعد من خطوة إدارية، إذا أصبح ورقة "ابتزاز" لتعطيل أو تسهيل عمل زملائه الوزراء بناء على موقف "الثنائي" وحساباته ومكتسباته. فهو يحاول الادّعاء أن ما أصبح يُعرَف بـ"التوقيع الثالث" هو عرف قائم وكان طرح في نقاشات الطائف، متناسياً ان اتفاق "الطائف" لم يأتِ على ذكره.
منطق "المثالثة" أَضحى "عدة شغل" بعض الأطراف السياسية لتحقيق مكتسبات ذاتية تحت ستار "حقوق الطائفة" وهو عملياً يضرب روحية "المناصفة" وغايتها أي خلق مناخ مستقر يبدّد قلق المكونات وأبنائها. في هذا الإطار، يكفي التذكير بما عرف بمعركة "التغويز FSRU"، أي الوحدة العائمة لتخزين الغاز الطبيعي المسال وإعادته إلى حالته الغازية، وهي محطة أساسية لبنان بحاجة لها إن أراد الانتقال من توليد الطاقة الكهربائية على الفيول اويل والغاز اويل الى توليدها على الغاز.
حينها، دخل لبنان في كباش ظاهرُهُ تقني – إداري – مالي وهل يتم إنشاء هذه الوحدة في دير عمار أم الزهراني وباطنه سياسي. أعطي الأمر طابعاً مذهبياً سنياً – شيعياً ورفع رئيس مجلس النواب نبيه بري السقف متمسكاً بإنشاء الوحدة في الزهراني رغم أن الدراسات العلمية والمعطيات الجغرافية والتقنية والبنى التحتية تشير إلى أن الأفضل إنشاؤه في دير عمار. فعمد "رئيس التيار الوطني الحر" جبران باسيل الى المطالبة بإنشاء وحدة في منطقة مسيحية أسوة بالشيعة والسنة عوض التصرف كرجل دولة والتمسك بالتقارير العلمية على هذا الصعيد، مع العلم ان كل لبنان لا يحتاج الى إنشاء أكثر من منشأة واحدة من هذا النوع. إنها "مثالثة" محاصصة ومنفعة شخصية من جيوب اللبنانيين خلقت اشمئزازاً عند الدول الصديقة للبنان.
ضمّ عضوين مدنيين شيعي وسني لـ"الميكانيزم" لطمأنة بيئة "الثنائي" فضيحة إن اعتُمِد لأنه يكرّس الشرخ الذي يعمل عليه "الثنائي" الشيعي بين بيئته والدولة
اليوم، وبعد انضمام السفير سيمون كرم الى لجنة "الميكانيزم" بدأ بعضهم الترويج أن لبنان يسعى إلى توسيع مشاركته المدنية في اللجنة عبر ضمّ عضوين جديدين أحدهما شيعي والآخر سني لطمأنة بيئة الثنائي"!!! فهل كرم عينته بكركي أم الدولة اللبنانية؟!! إنها لفضيحة إن اعتُمِد ذلك لأنه يكرّس الشرخ الذي يعمل عليه "الثنائي" الشيعي بين بيئته والدولة ويضرب منطق الدولة ويفرّغ العهد من التفاف اللبنانيين حوله.
لذا أصبح من الملحّ بعد الانتهاء من سلاح "حزب الله" الذي يخلق عدم تكافؤ في المواطنة بين اللبنانيين، أن يتم إجراء تقييم لواقع النظام القائم من "دون كفوف" أو "محرّمات" وأخذ العبر من التجارب المريرة منذ الاستقلال حتى اليوم للتوصل الى نظام يؤمن الاستقرار والازدهار ويبدّد مشاعر القلق من الغد والخوف من الآخر لدى المكوّنات.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
comment@alsafanews.com
