في انتظار ما ستُسفر عنه اجتماعات لجنة وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم) المنعقدة هذا اليوم في الناقورة، لا يزال المشهد العامّ على طرفي الحدود اللبنانية – الإسرائيلية معلّقاً بين احتمالين متناقضين: الأول، تصعيد عسكري واسع لا يتوقف كبار المسؤولين الإسرائيليين عن التلويح به، في ظلّ استمرار رفض "حزب الله" مبدأ حصرية السلاح وإعلانه مواصلته إعادة ترميم بنيته العسكرية؛ والثاني، نافذة سياسية ضيّقة، لكنّها قائمة، يفتحها رهانٌ لبناني – دولي على قدرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على كبح هذا التصعيد، خلال لقائه المرتقب نهاية الشهر الجاري في فلوريدا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
موقف لبناني ثابت… ورسائل محسوبة
وسط هذا التأرجح الحاد، يبرز الموقف الرسمي اللبناني بوصفه الأكثر ثباتاً وموضوعيةً وحكمةً في الوقت الراهن، خلافاً لما درجت عليه العادة خلال أزمنة الوصايات الخارجية على البلد منذ سنوات طويلة.
موقفٌ يستند إلى تعهّدات واضحة وردت في خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وتُرجمت لاحقاً في البيان الوزاري لحكومة الرئيس نوّاف سلام، ولا سيّما في ما يتعلّق بمبدأ احتكار الدولة اللبنانية الشرعية للسلاح على كامل أراضيها، فضلاً عن التأكيد على التزام لبنان باتفاقية الهدنة الموقّعة مع إسرائيل عام 1949.
وفي هذا الإطار، تتّجه الأنظار إلى البيان الرسمي الذي يُفترض أن تصدره الحكومة قبل نهاية ما تبقّى من أيام العام الحالي، لتفصيل الخطوات التي نفّذها الجيش اللبناني في تطبيق المرحلة الأولى من خطة نزع السلاح في جنوب نهر الليطاني، وهي مرحلة يُفهم من المعطيات المتداولة أنّها شارفت عملياً على الاكتمال.
"التفاوض لا يعني استسلاماً"
كلام الرئيس عون الأخير من قصر بعبدا لم يأتِ عابراً ولا بروتوكولياً. بل على العكس، يمكن قراءته كخريطة طريق سياسية في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، لا سيّما عند مثلّث الحدود اللبنانية – السورية – الإسرائيلية.
حين يؤكّد رئيس الجمهورية أنّ الدولة تعمل "من خلال التفاوض على تثبيت الأمن والاستقرار خصوصاً في الجنوب"، ويشدّد في الوقت نفسه على أنّ "التفاوض لا يعني استسلاماً"، فهو يوجّه رسالتين متوازيتين: الأولى إلى الداخل اللبناني، مفادها أنّ خيار الدولة هو منع الحرب لا التعايش معها؛ والثانية إلى الخارج، بأنّ لبنان لا يطلب حماية مجانية، بل يلتزم بما عليه مقابل تثبيت الاستقرار.
تحذير من توظيف الحرب انتخابياً
اللافت في خطاب الرئيس عون ليس فقط دفاعه عن خيار التفاوض، بل تحذيره الصريح ممّن "يعيشون على نَفَس الحرب" ويوظّفونها في حسابات انتخابية ضيّقة. هذا الكلام يلامس واحدة من أكثر الإشكاليات حساسية في الواقع اللبناني: استخدام الخطر الوجودي كأداة تعبئة سياسية داخلية.
وفي هذا السياق، تبدو عبارة "لعبة من يُسوّق للحرب انفضحت" بمثابة اتهام مباشر، لا يوجَّه إلى الخارج فحسب، بل إلى الداخل أيضاً، حيث لا يزال البعض يرى في التوتر الدائم رافعة سياسية لا غنى عنها في أزمنة الأزمات والصراعات والحروب.
رهان على ترامب… لا على النار
إشارة الرئيس عون الواضحة إلى "المواقف التي يتخذها الرئيس ترامب واهتمامه بموضوع السلام" ليست تفصيلاً. فهي تعكس قراءة لبنانية واقعية لميزان القوى الدولي، ومحاولة لالتقاط لحظة سياسية يُعتقد أنّ واشنطن فيها أقلّ حماسة للمغامرات العسكرية وأكثر ميلاً إلى تثبيت الهدوء، ولو مرحلياً في الوقت الراهن.
لكنّ هذا الرهان لا يُبنى على النوايا وحدها، بل على تقديم أوراق اعتماد لبنانية واضحة: جيشٌ يتحرّك، وحكومةٌ تلتزم، ورئاسةُ جمهورية تضع منع الحرب في رأس أولوياتها.
لبنان بين خيارين
في الخلاصة، يقف لبنان اليوم عند مفترق دقيق: إمّا تكريس منطق الدولة المُشتهى عند الغالبية العُظمى من أبناء الـ 10452 كيلومتراً مربّعاً المنتشرين في الداخل وغيرهم من الموزَّعين على بلاد الانتشار في الخارج، بخطوات متدرّجة لكن ثابتة، تضع السلاح غير الشرعي تحت سقف الشرعية وتغلق أبواب الحرب؛ وإمّا الانزلاق مجدداً إلى معادلة التصعيد المفتوح، حيث لا رابح حقيقياً سوى الخراب.
حتى الآن، يبدو أنّ الموقف الرسمي اللبناني اختار الطريق الأصعب الذي يمكن أن يؤدّي – في نهاية المطاف – إلى توفير الظروف الملائمة لتيسير أحوال اللبنانيين: طريق السياسة والتفاوض ووضبط الانفعالات… في انتظار ما إذا كان هذا الخيار سيحظى بالفرصة اللازمة لنجاحه قبل أن تفرض المنطقة إيقاعاً دولياً وإقليمياً آخرَ لا يُمكن لأحدٍ التكهّن حول مدى اتّساع خطورته على دول الإقليم بأكملها بعد.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
comment@alsafanews.com
