يطبق الرئيس دونالد ترامب استراتيجية دفاع جديدة قديمة استوحاها من تلك التي طبّقها الرئيس رونالد ريغن. وقد أعلن ترامب هذه الاستراتيجية المعروفة بـ "السلام من خلال القوة" في حملته للفترة الرئاسية الثانية. جوهرها هو أن التفوق العسكري الأميركي الساحق والواضح — إلى جانب الاستعداد المُعلن لاستخدام القوة بشكل غير متوقع — هو أفضل طريقة لردع الخصوم وتجنب الحروب المكلفة. هذه الاستراتيجية تقوم على التفاوض المقرون بالقوة والتهديد للوصول إلى صفقة؛ تركز على "الانتصارات" الواضحة، وتحميل الحلفاء قسطهم من الأعباء، وترى القوة العسكرية أداة أساسية للدبلوماسية، بدون أن تكون التنمية مدمجة بها. وهي تختلف جذرياً في نواحيها كافة عن استراتيجية سلفه الرئيس جو بايدن التي ارتكزت على مفهوم "الردع المتكامل".
استراتيجية بايدن اعتمدت على الجمع السلس بين القدرات العسكرية وجميع أدوات القوة الوطنية كالدبلوماسية والتكنولوجيا القدرة الاقتصادية والاستخبارات والتنسيق الوثيق مع الحلفاء والشركاء لمواجهة الخصوم. كانت استراتيجية متعددة الأطراف تركز على الخصومة الاستراتيجية عبر المجالات السيبرانية والفضائية والاقتصادية، وليس فقط على المواجهة العسكرية.
واشنطن وبيجينغ وموسكو
فيما تظل الصين الخصم الاستراتيجي الأكبر على المدى الطويل، يركز ترامب بشكل فوري على "محور" جديد يشمل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، ويرى في تصرفات تلك الدول جميعاً تنسيقاً عدائياً واستعداداً للمواجهة.
أما بايدن فكان يرى الصين التحدي الرئيسي وروسيا التهديد الحاد. وكانت استراتيجيته حيالهما تقوم على أن المنافسة الشاملة مع الصين طويلة الأمد وتتطلب إعادة تموضع عالمي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، على الرغم من اضطرابات أوكرانيا.
وكان يرى أن الخطر العسكري الروسي أكثر إلحاحاً للأمن الأوروبي بما يفرض تعزيز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي. أما في شأن الخطر المتأتي من إيران وكوريا الشمالية تهديدات فتعامل معه البيت الأبيض بالاحتواء والدبلوماسية.
إدارة التحالفات
ينظر ترامب التحالفات كمعاملات مالية. وهو لا يخفي مطالبته حلفاءه، خصوصاً في الحلف الأطلسي بأن يزيد الحلفاء فوراً وبشكل كبير إنفاقهم الدفاعي، بما يتجاوز هدف 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وأن يشتروا الأسلحة الأميركية. ولا يتردد ترامب في الرد على التأخر في تلبية مطالبه بتنفيذ إجراءات تشمل سحب القوات الأميركية أو رفض الدفاع عن الحلفاء الذين يعتبرهم "متقاعسين"، وهو ما يضع ضغطاً شديداً على الحلفاء على المدى القصير لكنه قد يقوض الثقة والتبادل البيني على المدى الطويل.
وعلى عكس ترامب، سعى بايدن لإحياء وتوسيع التحالفات مثل حلف شمال الأطلسي وحلف استراليا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والشراكات في منطقة الهندي والهادئ. كان تقاسم الأعباء يشجع ضمن إطار القيم الديمقراطية المشتركة والمصالح الاستراتيجية بهدف بناء شبكة شراكات كثيفة لتجاوز الصين واحتواء روسيا. وكان الانتشار الأميركي في المواقع المتقدّمة استثماراً في نظام قواعد مستقر.
تموضع القوات وانتشارها
استراتيجية ترامب مرنة وغير متوقعة وفعالة من حيث التكلفة. من المتوقع خفض الوجود العسكري الدائم في الخارج وزيادة عمليات الدوريات المتناوبة فوق القواعد الثابتة الكبيرة، لإبقاء الخصوم في حيرة وتقليل التكاليف. تركز الاستراتيجية على القوتين البحرية والجوية وتعطي الأولوية لتوسيع القوة الجوية وعدد الغواصات المتقدّمة تكنولوجياً على حساب القواعد البرية الكبيرة الدائمة.
تختلف هذه الاستراتيجية عن استراتيجية بايدن المستقرة، المتوقعة، والمفصّلة على قياس المناطق المختلفة والتي تهدف لتعزيز الوجود الأوروبي عبر تمركز قوات ومقرات وقدرات دائمة أكثر في أوروبا الشرقية بعد غزو روسيا لأوكرانيا. وفي الجزء الجنوبي الغربي للكوكب، كان انتشار القوات مترافقاً مع استثمارات في قواعد مشتركة في أستراليا والفلبين وغوام، وزيادة الدوريات البحرية والتدريبات العسكرية مع الشركاء.
الأسلحة النووية والردع الاستراتيجي
فيما كان بايدن ملتزماً بتحديث الترسانة النووية للحفاظ على قوة ردع مقنعة، تبنّى ترامب تحديث وتوسيع الترسانة النووية كلها مع انفتاح على استئناف الاختبارات النووية بهدف تحقيق تفوق ساحق يردع أي ترهيب نووي من روسيا أو الصين.
استخدام القوة وآلية اتخاذ القرار
طبّق بايدن نهجاً مدروساً ومحسوباً بدقة في اتخاذ قرارات استخدام القوة. أما ترامب فاختار أن يكون فجائياً وحاسماً. تبنى الغموض الاستراتيجي لإرباك الخصوم وأبقى القرارات الكبرى في البيت الأبيض مع تقليل الاتكال على تقييم المخاطر من البنتاغون.
التكنولوجيا وحرب المستقبل
تركيز بايدن على التكنولوجيا المتقدمة كان عبر التعاون مع الحلفاء. استراتيجية ترامب تركز على تسريع اقتناء الأنظمة المتقدمة القائمة مثل F-35، وغواصات فئة فيرجينيا، والتقنيات الثورية كالصواريخ الفائقة السرعة، وأسراب المطيَّرات، والحروب المعززة بالذكاء الاصطناعي. من المرجح أن يتم تعزيز القوة الفضائية ودرع الدفاع الصاروخي الوطني. وسيكون الابتكار مدفوعاً أكثر بالمنافسة في القطاع الخاص أكثر منه على خرائط طريق مشتركة للحلفاء.
الانعكاسات الاستراتيجية
استراتيجية ترامب تخلق وضعاً لا يسمح للخصوم بتوقعه، وهو بطبيعة الحال أكثر صدامية في مواجهة خصوم مثل الصين وروسيا وإيران. هذا الغموض قد يردع الأعمال العسكرية العدوانية لأن الخصوم غير متأكدين من ردة فعل مفرطة. لكنها في المقابل قد تسرّع تحالفات الخصوم وتزيد من خطر سوء التقدير إذا كانت الخطوط الحمراء غير واضحة.
بالنسبة للحلفاء، تخلق استراتيجية ترامب ضغوطاً سياسية ومالية فورية لأن المطالب الصارمة قد تشتّت التماسك. قد يزيد بعضهم الإنفاق، لكن النهج التبادلي يضر بجوهر الدفاع الجماعي.
بالنسبة لمناطق النزاع، تمثل الاستراتيجية تحولاً حاسماً من دعم بايدن غير المشروط لأوكرانيا إلى نهج تبادلي مشروط يطالب أوروبا بالمساهمة المالية ويضغط على أوكرانيا لتقبل بتفاوض سريع يخدم المكاسب الإقليمية الروسية.
بالنسبة لتايوان، تسمح الاستراتيجية بزيادة مبيعات الأسلحة والدعم الواضح، لكنها تحافظ على غموض متعمد في الرد الأميركي المحتمل على هجوم صيني.
أما في في الشرق الأوسط فتبدو الاستراتيجية متمسكة بدعم كبير لإسرائيل وضغط شديد على إيران وأذرعها.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
comment@alsafanews.com
