جاءت الضربات الإسرائيلية على سوريا لتزيل أي لبس حول نيات حكومة اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو، حيال دمشق، بعد موجة تفاؤل غير واقعية عن التطبيع بين البلدَين وصلت إلى حد وضع جدول زمني لاتفاق سلام قريب بين إسرائيل وسوريا!
والحال أنّ أكثر حكومات التطرف الإسرائيلية في تاريخ الدولة العبرية والتي باتت تمتلك مشروعاً جغرافياً توسعياً هو الأكبر منذ العام 1967، كشفت سريعا عن نواياها تجاه دمشق فور سقوط النظام السابق، عندما شرعت في ضربات جوية غير مسبوقة وتوغلات برية إلى حد باتت معه حاكمة فعلية للجنوب السوري الممتد بين الجولان المحتل والسويداء، فيما تتمتع بالفعل بنفوذ في مناطق أخرى كالشمال حيث السيطرة الكردية.
جاء كل ذلك بعد سوء تقدير من قبل الحكم في دمشق نتج عن عدم فهم للنوايا الإسرائيلية وسوء فهم مرافق للموقف الأميركي، وبينهما للتواصل الإسرائيلي السوري في أذربيجان.
فإضافة إلى النوايا الإسرائيلية "السلمية" التي صدّقها الرئيس السوري أحمد الشرع ومن معه، كان ثمة جهل واضح بمدى التزام نتنياهو والمتطرفين في حكومته تجاه دروز إسرائيل ورابطة الدم التي تجمعهم مع إخوانهم في سوريا.
وفور استعادة فصائل مسلحة لممارساتها السابقة في عمليات قتل وإذلال وتدنيس لمقامات درزية مقدسة، بغض النظر عما إذا كان ذلك بإشراف من الشرع نفسه أم أنه من فعل فصائل غير منضبطة متناثرة في المشهد السوري، التزمت إسرائيل بالمحدَّدات الاستراتيجية والثقافية التي وضعتها لنفسها وبما تسميه "تعهُّداتها التاريخية الأخلاقية" تجاه الدروز، الأقلية التي أظهرت ولاءها العميق للكيان العبري منذ انخراطها الحقيقي في المؤسسة العسكرية في العام 1956.
ويُعرَف هذا الارتباط ايضا بـ "العهد الدموي"، نتيجة الدور البارز الذي يلعبه الدروز في كل جانب من جوانب المجتمع الإسرائيلي، بما يتخطى دورهم في الجيش، رغم انهم لا يشكلون سوى ثلاثة في المئة منه، ليشمل الأوساط الأكاديمية والسياسة والأعمال التجارية والإعلام.
وبذلك فهم يشكلون لوبي يصعب على نتنياهو، الذي يواجه التعقيدات داخلياً، تجاوزه، بل عليه السعي إلى أصواته في حملته الانتخابية.
على أن الشأن الدرزي ليس الفيصل في تقرير التعامل الإسرائيلي مع الشرع.
فنتنياهو لا يثق بهذا النظام الإسلامي على الإطلاق ويريد التخلص منه. وحتى تحين الفرصة لإسقاطه، هو يشرع في عملية ردعه عسكريا وتحطيمه كل يوم.
منذ بداية الأحداث اختبرت إسرائيل عقيدة دفاعها المتقدمة في سوريا والمتمثلة في منطقة منزوعة السلاح (الثقيل) تمتد عشرات الأميال من الحدود. طبعا يأتي ذلك تحت عنوان منع ما حدث بالضبط في السابع من تشرين الأول 2023 في غزة. ويعتمد ذلك على مناطق دفاعية شرقي خط الهدنة للعام 1974 في الجولان، مدعومة بحاجز أرضي ونطاق نفوذ عسكري معلن يمتد حتى 52 ميلا داخل الأراضي السورية.
وبما أن الشرع تخطى هذا الخط الأحمر الاستراتيجي ليس فقط عبر المشاة بل عبر دبابات ومدرعات ومدافع.. فقد تم ضربه سريعا.
هذه الضربات لم يحسب لها الشرع حسابا.
فالأحداث التي بدأت كاشتباكات محلية بين ميليشيات بدوية وفصائل درزية متَّهمة بأنّها من فلول النظام السابق (وهناك بالفعل ضباط يشاركون في القتال)، سواء كانت خطة دبّرها الشرع أو استثمر فوضاها كفرصة مدروسة لإعادة فرض سيطرته على منطقة قاومت السلطة المركزية طويلاً، فإن ما فعله اصطدم بالواقع الجديد، أي الواقع الإسرائيلي. ثم إنه مهما كانت طبيعة تلك القوات التي هاجمت السويداء، فإن معظمها غير نظامي وقوامه جهاديون أعيد تشكيلُهم ومقاتلون جلبهم الشرع معه من إدلب وصاروا الأذرع الرسمية للنظام.
أتى الردّ الإسرائيلي متدرِّجاً. وكان لافتا أن إسرائيل لم تهاجم مباشرة القوات المنتشرة على طريق دمشق – درعا. بدلاً من ذلك، أرسلت إسرائيل مطيَّرات لضرب مواقع قرب السويداء. ومع تزايد تقدّم قوات النظام، لم تراعِ إسرائيل الحساسية التركية ولا حتى الضغوط الأميركية، فقصفت طائرات إسرائيلية مواقع للنظام في السويداء ومقرّ جهاز الأمن العام الجديد في دمشق. ثم جاءت ضربات دمشق وبخاصة القصر الجمهوري.
أعادت إسرائيل الأمور إلى ما قبل محادثات باكو. وبات على الشرع الخروج من حسابات بناها على أساس حصوله على تأييد أميركي كبير داخل بلاده. فمن المسموح له الحكم لكن ليس على حساب أمن إسرائيل التي تمتلك مصالح حيوية.
فقد ثبت أنّ الرسائل الأميركية حول حكم سوريا كدولة مركزية موحَّدة من دون مناطق حكم ذاتي، سرعان ما كانت تقديرا خاطئا لصمت المسؤولين الأميركيين أيضا حيال مخططات لنشر قوات سورية في الجنوب.
حرب باردة إسرائيلية تركية
بعد كل ما حصل، ستتفاقم الأمور بين الحكم في دمشق، غير المستقر والمعتمد على القوة التركية والدعم العربي والغطاء الأميركي، والأقليات التي ستتلقى دعماً من الخارج عند المساس بوجودها.
وهو ما يطرح السؤال الجوهري عن ماهية العلاقة الحرجة بين إسرائيل وتركيا التي قد تتحول إلى حرب باردة وسط محدوديّة للقوة الإسرائيلية مهما حاول نتنياهو.
من الواضح أنّ نتنياهو يراقب بقلق منذ فترة تصاعد الدور التركي في سوريا وتزايد نفوذ أنقرة وتحقيقها مكاسب استراتيجية (خصوصاً بعد ترويض الأكراد) تتخطى سوريا لتشمل الإقليم وصولاً إلى أفريقيا، وتهدد إسرائيل نفسها من الداخل عبر حركة "حماس" علماً أن الحكم التركي يشترك مع تلك الحركة بالجذور الإخوانية.
لكن سيكون على نتنياهو حلُّ معضلة الرفض الأميركي لمشروعه التوسعي والشامل في سوريا أوّلاً، ثم إقناع الرئيس دونالد ترامب بعدم جدوى تلزيم سوريا للأتراك (أنقرة عضو فاعل في "الناتو") أو أقله توسيطها في ملفات إقليمية كبرى على حساب الدور الإسرائيلي، نظراً للمقدَّرات التركية الكبيرة التي تسمح لها بنفوذ وبأداء دور تتقاطع عليه قوى دولية وإقليمية لتهندس ترتيبات أمنية وسياسية تريدها واشنطن وتعجز عنها إسرائيل.
من المستبعد اندلاع صدام مباشر بين الطرفين، لكنّ الأمور ستكون مرهونة بالضبط الأميركي الدقيق الذي غطّى حكم الشرع، ويعمل على استقرار سوريا والمنطقة في سبيل سلام وتطبيع في المنطقة، ما سيمنع نتنياهو من فتح جبهة سورية كبرى كما في غزة ولبنان وإيران.