في الذاكرة الأوروبية، تَبرُز بعض الأسماء التي تتجاوز كونها مجرّد شخصيات تاريخيّة لتتحول إلى رموز ثقافية. أحد هذه الأسماء هو "جيا باتيستا كازانوفا"، الرجل الذي أصبح اسمه مرادفاً للمُغوي، وعنواناً دائماً في أدب العشّاق والمخادعين.
لكن من كان "كازانوفا" فعلاً؟ أهو مجرّد زير نساء، أم أنه فيلسوف متجوّل أم مغامر ذكي أم مخادع أم كاتب بارع عاش في ظل التناقض بين اللذّة والعقل؟
ولد "كازانوفا" عام 1725 في مدينة البندقية الإيطالية (Venice) ، لعائلة متواضعة تعمل في المسرح. ومنذ صغره، أبدى ميولاً فكريّة وفنية لافتة، فتعلّم اللاتينية واليونانية ودرس القانون قبل أن يشدّه سحر المغامرة والتجوال في عواصم أوروبا.
لكن شهرته لم تُصنَع من محاضرات الفلسفة ولا من كتاباته فقط، بل من مذكراته الذاتية المُدَويّة في كتابه "قصة حياتي" (L’histoire de ma vie)، التي دَوّن فيها مغامراته العاطفيّة والفكريّة بتفصيل مليء بالإغراء ومثير للدهشة.
بعكس الصورة السطحية المنتشرة في العالم بعبارة "كازانوفا عصره"، لم يكن كازانوفا مجرّد عاشق طائش أو مستهتر، في كتاباته ورسائله يتّضح أنه كان يرى في العلاقات الإنسانية فناً معقّداً يقوم على الذكاء والفطنة والحيلة والإقناع وفَهم النفس البشريّة. لم يكن يغوي النساء بجماله أو ماله، بل بسحره الشخصي وثقافته الواسعة ولغته الآسرة. كانت حواراته تُشبه المناظرات، وعلاقاته مليئة بالمفارقات الفكريّة واللحظات الإنسانية العميقة.
خلال حياته، عَمِل "كازانوفا" في مجالات عدّة، كان قسّيساً لفترة طويلة ولاعب قُمار محترف ودبلوماسي وسياسي مخادع على النهج الماكيافيلي، اعتُقل وأوقف في البندقية بسبب "جرائم ضد الأخلاق والدين"، وقصة هروبه من سجن قصر الدوجي أضافت إلى أسطورته بُعداً بطولياً ورمزاً للجرأة والشجاعة.
لاحقًا، ارتبط بعلاقات مع مفكّرين مثل "فولتير"، وكتب في الفلسفة والعلوم والسياسة، وناقش موضوعات كثيرة عن الحرّية الفرديّة والدين والهويّة، وهذا ما جعله من مفكري عصره وليس مجرّد عاشقٍ عابر.
مات "كازانوفا" عام 1798، وحيداً في قلعة نائية ببوهيميا (جمهورية التشيك اليوم)، حيث عمل أميناً لمكتبة أحد النبلاء، وكتب مذكّراته في سنواته الأخيرة.
ربما كان "كازانوفا" أكبر من مجرّد زير نساء، لقد كان إنساناً عاش تناقضات الحياة، خاف من الوحدة وعاش في عالمٍ من الأقنعة، لكنه أصرّ أن يكتب بصدق ليخلَّد.