عقب الحرب العالمية الثانية، اجتمع المنتصرون في بوتسدام، ألمانيا، من أجل وضع أسس السلام في أوروبا ورسم ملامح النظام العالمي الجديد. ولكن هذا المؤتمر، الذي كان يُفترض أن يكون لحظة توافق، شكّل في الحقيقة بداية مواجهة طويلة بين القوى الغربية والاتحاد السوفيتي: الحرب الباردة.
مكان مليء بالرموز
افتُتح المؤتمر في 17 يوليو 1945 في قصر "سيسيليانهوف"، المقر السابق لولي عهد بروسيا، والواقع في منطقة الاحتلال السوفيتي. كان المكان جميلاً من الناحية الشكلية، لكنه محاط بالخراب ومليء بالبعوض. وعلى مدى أسبوعين، أصبح مسرحاً لمفاوضات مكثفة بين القوى العظمى الثلاث المنتصرة على النازية: المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي.
كان وينستون تشرشل صاحب المبادرة. ففي 6 مايو، قبل استسلام ألمانيا، اقترح لقاءً على هاري ترومان، الرئيس الأمريكي الجديد، من أجل رسم ملامح مرحلة ما بعد الحرب. أما شارل ديغول، زعيم إحدى الدول المحرِّرة، فقد استُبعد من المحادثات، وهو ما ندد به بشدة.
مناخ من انعدام الثقة المتزايد
كان تشرشل قلقاً من التوسع السوفيتي في أوروبا الشرقية، متهماً ستالين بفرض أنظمة شيوعية في كل مكان وصلت إليه الجيش الأحمر. كما عبّر عن قلقه من قلة خبرة ترومان، الذي اعتبره مثالياً أكثر من اللازم. وكتب في رسالة: "ستار حديدي قد سقط على الجبهة السوفيتية".
وصل ترومان إلى ألمانيا في 15 يوليو، والتقى ستالين في 17 يوليو، واصفاً إياه بأنه "مهذب للغاية" لكنه مراوغ. كانت المجاملات الدبلوماسية تخفي خلافات عميقة. بدأت أعمال المؤتمر في اليوم نفسه، برئاسة ترومان بناءً على اقتراح من ستالين.
مفاوضات شاقة
من بين القضايا الرئيسية: مصير ألمانيا المهزومة، إعادة إعمار أوروبا، دخول الاتحاد السوفيتي الحرب ضد اليابان، ومسألة التعويضات.
الاتفاق الأولي بشأن ألمانيا — عدم إنشاء حكومة مركزية، نزع السلاح، القضاء على النازية، والإبقاء على مناطق الاحتلال — انهار سريعاً أمام خلافات كبرى.
طالب ستالين بتعويضات ضخمة، خصوصاً لتعويض الدمار الذي لحق بالاتحاد السوفيتي، لكن الأمريكيين والبريطانيين، المتخوّفين من تكرار أخطاء معاهدة فرساي، رفضوا إضعاف ألمانيا بشدة خشية خلق نزعة انتقامية. وكانت بولندا نقطة خلاف أخرى؛ حيث أصرّ ستالين على تنصيب حكومة موالية للسوفييت، وهو ما عارضه الغرب دون أن ينجح في منعه.
السر النووي وظلّ توازن جديد
خلال المؤتمر، تلقى ترومان خبراً حاسماً: في 16 يوليو، أجرت الولايات المتحدة أول تجربة ناجحة للقنبلة الذرية في صحراء نيو مكسيكو. غيّر هذا التطور موازين القوى الإستراتيجية. أخبر ترومان تشرشل بالأمر في 18 يوليو، لكنه لم يُطلع ستالين سوى على تفاصيل غامضة. ورغم دهشته، ظلّ ستالين هادئاً، دون أن يكشف أن جهاز مخابراته كان على علم مسبق بالتجربة.
أعطت هذه القنبلة ترومان شعوراً بالتفوق انعكس على مواقفه في المفاوضات. وكتب في رسائل خاصة: "لدي بعض الأوراق الرابحة".
مناطق النفوذ والواقعية السياسية
كرّس المؤتمر مبدأ "مناطق النفوذ"، وإن لم يُعلن ذلك رسمياً. سقطت أوروبا الشرقية تحت السيطرة السوفيتية، بينما بقيت اليونان وإسبانيا وإيطاليا ضمن المعسكر الغربي.
تم تقسيم ألمانيا، ونُقلت الحدود البولندية غرباً إلى خط الأودر-نايسه، ما أتاح لبولندا استعادة أراضٍ على حساب ألمانيا، تعويضاً عما استولت عليه موسكو شرقاً.
كان تشرشل ينتظر نتائج الانتخابات البريطانية على أمل استعادة المبادرة، لكنه خسر في 26 يوليو، وحلّ مكانه كليمنت أتلي من حزب العمال، وهو زعيم غير كاريزمي، ولم يكن له تأثير في المحادثات، ما ترك الساحة لستالين وترومان.