لم تعد مظاهر النسيان اليومية والتشتت للكبار والصغار مجرّد سهوةٍ عابرة أو نتيجة طبيعية لضغوط الحياة، بل تحوّلت إلى ظاهرة متجذّرة في حياتنا اليومية ترتبط مباشرةً بمتغيّرات العصر الرقمي والتطور السريع الذي شهده هذا القرن وأخذت ذاكرتنا تخسر جزءًا من مساحتها مقابل كل جهاز جديد يدخل حياتنا.
بدأت الحكاية مع الثورات الزراعية والحرفية والعلمية، ثم قفزت مع الثورة الميكانيكية وآلة باسكال والمحرّك البخاري والكهرباء. وجاء الهاتف والراديو والتلفزيون لتشكّلو ثورة الاتصالات. وبعد اختراع الحاسوب ثم الإنترنت في الثمانينيات، تسارعت التكنولوجيا مع الهواتف الذكية والذكاء الاصطناعي، فانتقلنا من نشاطات جماعية إلى عزلة فردية متزايدة.
لم يكن أحد يتصوّر أن الشاشات ستسلب العقل شيئًا من قدرته على التركيز وتعمّق مشكلة الذاكرة وتحيي النسيان. تلك القدرة التي ينمّيها الكتاب ببطء وعمق بدأت تتلاشى؛ فتراجعت ملكة التعبير، وضعفت مهارة الكتابة، ولم نعد نُجهد أنفسنا في تصحيح الأخطاء بعدما تولّت البرامج هذه المهمة عنا. وأصبح العقل يلجأ بسهولة إلى الآلة بدل أن يُمرّن نفسه على التفكير والصياغة، في زمن خفّت فيه أهمية الورق وما يحمله من مشاعر، لتحلّ مكانه الرسائل السريعة و " الإيموجي". وبتنا نحسب أن رسالة قصيرة تكفي لتحلّ مكان الوجود الفعلي، وأن الردّ السريع قادر على أن يوازي اللقاء. هكذا خسرنا جزءاً من مشاعرنا الحيّة، واستبدلناها بإشعارات باردة لا تحمل من حرارة العلاقة شيئاً، ولا تحفظ صدق اللحظة.
اختُزلت المسافات وتلاشت بوصلتنا الداخلية حين صارت الخرائط تقودنا في كل خطوة، ففقدنا مهارة الاستدلال، وتراجعت معها عادات بسيطة تمنح العقل وقتًا للتأمّل. حتى المال تحوّل إلى رقم على شاشة؛ فلم يعد للعملة الملموسة وزنها في الذاكرة، ولا لعملية الدفع وقعها الواعي. صار الإنفاق مجرّد "نقرة" تُنفَّذ في ثوانٍ، منزوعاً منها الشعور بالمسؤولية أو الإدراك الحقيقي لمعنى الشراء.
تراجعت الحواس، وخفّ عبق الورد ورائحة الطعام التي كانت تملأ البيوت دفئاً لتحلّ مكانها برودة المنازل الحديثة. أصبحنا نعيش في زمن يستبدل العمق بالاختصار، والملموس بالافتراضي وتحوّل تركيزنا إلى توثيق اللحظة بدل الإحساس بها والتوقف عند معناها، واختفى صوت الحياة داخل سماعتين ترافقانا أينما ذهبنا، حتى غدا العالم من حولنا "صامتاً" إلا من صرخات أرواحٍ تائهة حُرمت ضجّة النهار وسكون الليل. وانتقلنا من رحلة نعيش تفاصيلها خطوة بخطوة إلى مجرّد وجهة نصل إليها بسرعة، بلا ذاكرة ولا أثر للعبور. صار العمر عملية إحصائية رقمية؛ نتذكّر ما نشاهده لا ما نعيشه، وكأن المدن التي نقطنها لا نعيش فيها حقًا. نعرف الكثير عمّا يدور حولنا، لكننا نجهل أنفسنا… أصبح كل شيء جاهزًا إلا نحن.
اليوم يُربّى جيلٌ بذاكرة قصيرة، قصيرة جدا، ومع اختفاء المهارات اليدوية اختفت معها ذاكرة الجهد، وذاكرة الإنجاز، وذاكرة التعلّم البطيء ، وحين صمتت البيوت عن رواة الأمس خسرنا ذاكرة الجذور والانتماء وتحديد من نحن.
الإنسان الذي كان يخشى الإدمان على المخدرات، أصبح اليوم يدمن الإنترنت والمنصّات الرقمية. وقد لخص آدم ألتر هذه المفارقة حين قال في كتابه Irresistible: «بدا كأنّ من يصمّمون منتجات التكنولوجيا يتبعون القاعدة الأساسية لتجار المخدرات…». لم يكن ذلك مصادفة؛ فالمنصّات الرقمية تُعطي جرعات صغيرة ومنتظمة من المتعة الفورية، تلهينا عن مواجهة ذواتنا. هذا المخدّر الرقمي محا ذاكرة الطفولة، ذلك “الملجأ المعالج”، وفكك الروابط الأسرية حين اقتحم الغرباء البيوت عبر الشاشات، إذ بتنا نسمع أصواتهم التي تعلو ضحكات الأطفال …
والمفارقة اللافتة أنّ التطوّر الذي جاء ليُسهِّل الحياة ويُنظّمها، جعلها في المقابل أكثر هشاشة في التركيز والحفظ. بات العقل يميل إلى التراخي، كأنّه يسلّم وظائفه اليومية للأنظمة الرقمية دون مقاومة. انتقلنا من صانعي ذكريات إلى جامعي ملفات غير ملموسة، ومن منتجين للمعرفة إلى "صانعي محتوى" على منصات فتحت أبوابها للجميع، فصار العالم والجاهل يبثّان أفكارهما على السواء وتحوّلت بعض المنصات إلى مهنة لمن لا مهنة له.
فهل نحن نعيش عصر التطوّر، أم عصر النسيان المُقنّن"؟ وهل تحول التطور إلى مجموعة عادات تُفرِّغ إنسانيتنا من معناها شيئاً فشيئاً؟
الحقيقة أنّ التطوّر ليس المتّهم؛ ككل شيء في الحياة يصطدم بالوجهين وما علينا إلا خلق التوازن، كي لا يتحكّم هذا التطوّر بإيقاع حياتنا، ونصون المساحة التي لا ينبغي له أن يستولي عليها، فنوجّهه بدل أن نسمح له بأن يأسرنا ويسرق ذاكرتنا.
نعم، لقد أدخلنا التطوّر في مرحلة من الوعي الجماعي الرقمي، مرحلة لم تعد فيها العقول خاضعة لمصدرٍ واحد، بل باتت أمام فضاء واسع من المعلومات، رغم كل محاولات التحكم، التوجيه، والسيطرة. هذا الشريك الجديد في صناعة القرار، إن أحسَنّا استخدامه، قادر على أن يقرّبنا من الحقائق، وأن يمنحنا قدرة أكبر على التمييز والاختيار ويخفّف من تأثير الوسائل التقليدية. يكفي أن ننظر إلى بعض الأعمال التي كانت تتطلّب أشهرًا إذ باتت اليوم تُنجز في ثوانٍ.
أمام هذا الواقع، هل يمكننا تحويل هذا التطوّر إلى أداة ترتقي بالإنسانية، بدل أن تدفع بنا نحو حياةٍ آلية تُطفئ الروح وتحوّلنا إلى أجساد متحركة من دون ذاكرة؟! وهل يمكننا إيجاد التوازن بين التطور التكنولوجي والتطور الإنساني علّنا بذلك نتفادى العيش في زمن بلا ذاكرة.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
comment@alsafanews.com
