في مشهد جديد يعكس التوترات المتزايدة بين السلطات والمواطنين في لبنان، أصدرت وزارة الداخلية قرارًا مثيرًا للجدل يقضي بمنع استخدام "التوك توك" كوسيلة للنقل العام في جميع المناطق اللبنانية. القرار، الذي بررته الوزارة بضرورات تتعلق بالتنظيم والسلامة العامة، واجه موجة من الاحتجاجات الشعبية، لا سيما في مناطق مثل البقاع، طرابلس، بعلبك والبترون، حيث تحوّل "التوك توك" من مجرد وسيلة نقل إلى شريان حياة للعديد من العائلات الفقيرة والمهمّشة.
"التوك توك": وليد الأزمة لا خيار الرفاه
منذ أعوام، فرضت الظروف الاقتصادية القاهرة في لبنان نفسها على الخيارات اليومية للناس. ووسط انهيار العملة الوطنية وارتفاع أسعار الوقود بشكل جنوني، لم يعد اقتناء سيارة أو استخدام وسائل النقل الخاصة خيارًا متاحًا للكثيرين. في هذا السياق، ظهر "التوك توك" كحل عملي، بفضل كلفته التشغيلية المنخفضة وسهولة قيادته، خاصة في المناطق التي تعاني من غياب كلي أو شبه كلي لشبكات النقل العام.
غير أن القرار الرسمي أغفل، بحسب سائقي "التوك توك"، السياق الاجتماعي والاقتصادي الذي أفرز هذا "القطاع الغير الرسمي". فـ"التوك توك"، كما قال أحدهم، "ليس خياراً ترفيهياً بل وسيلة بقاء"، تؤمّن دخلاً ولو بسيطاً لعشرات الشبان العاطلين عن العمل، وتوفر وسيلة نقل زهيدة لأبناء المناطق الفقيرة.
توسع رقعة الاستخدام... وتحوّله إلى ظاهرة اجتماعية
ما بدأ كحل محلي في بعض الأحياء الشعبية، تحوّل إلى ظاهرة وطنية. هذا التوسع يعود إلى جملة من العوامل، أبرزها انعدام البدائل، التسهيلات الضمنية التي تقدمها البلديات والقوى الأمنية في البداية، بالإضافة إلى قدرة “التوك توك “على التكيّف مع تضاريس لبنان الوعرة.
لكن التظاهرات التي اندلعت عقب قرار المنع أظهرت بوضوح أن "التوك توك" لم يعد مجرد وسيلة نقل، بل بات يعكس فئة اجتماعية مهمشة، مستعدة للدفاع عن مصدر رزقها في الشارع. وقد عبّر مصدر أمني لموقع "لبنان24" عن دهشته من عدد المحتجين، ما يعكس مدى تغلغل هذه الظاهرة وصعوبة تجاهلها أو قمعها بسهولة.
إشكاليات حقيقية... ولكن هل الحل بالمنع؟
لا يمكن إنكار وجود مشكلات حقيقية في استخدام "التوك توك". فمعظم هذه المركبات غير مسجلة، لا تخضع لفحوص ميكانيكية، وغالباً ما يقودها قاصرون أو أشخاص دون رخص قانونية، مما يشكل خطراً على السائقين والمارة على حد سواء. ومع ذلك، فإن الحظر الشامل لا يبدو حلاً ناجعاً، بل خطوة قاصرة تفتقر إلى البعد الاستراتيجي.
في هذا السياق، يقول خبير النقل الحضري د. سامر بدران:
"في غياب سياسة نقل شاملة في لبنان، يصبح قرار منع “التوك توك “ تصرفاً انفعالياً لا يعالج جذور المشكلة. المطلوب هو تنظيم القطاع، لا اجتثاثه، لأنه جزء من منظومة اقتصادية واجتماعية أكبر."
نماذج دولية... والاستفادة من التجارب الناجحة
في دول عديدة، أصبح "التوك توك" جزءاً معترفاً به من نظام النقل العام، مثل:
- الهند: يُعد وسيلة نقل شعبية، ويخضع لقوانين تسجيل وتأمين، مع دعم حكومي لخفض الانبعاثات عبر التوجه نحو “التوك توك “الكهربائي.
- مصر: رغم التحديات، اعتمدته الدولة في بعض المناطق النائية مع تنظيمات مرحلية.
- إندونيسيا وتايلاند: يشكّل “التوك توك “جزءاً من المشهد السياحي والنقل الحضري، ضمن أطر تنظيمية واضحة.
في هذه الدول، لم تكن المواجهة مع هذه الوسيلة، بل تم استيعابها ضمن نظام النقل عبر خطط طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الشعبية.
بين المنع والتنظيم: ما الطريق إلى الأمام؟
بدل الحظر الشامل، كان بالإمكان السير في خطوات تنظيمية مرحلية، مثل:
- تخصيص مناطق يُسمح فيها باستخدام “التوك توك “وفق معايير واضحة.
- إطلاق برامج تسجيل وتأمين مع تسهيلات مالية لتشجيع الانخراط الرسمي.
- تنظيم ورشات توعية وتدريب لسائقي “التوك توك “بالتعاون مع البلديات.
- فرض رسوم رمزية تسهم في دعم قطاع النقل العام وتخفيف العبء على الدولة.
خاتمة: رؤية متدرجة... لا قنبلة اجتماعية
إن قرار حظر "التوك توك" يعكس مرة أخرى انفصال السلطات عن واقع الناس، ويهدد بإشعال توتر اجتماعي في وقت يعاني فيه لبنان من أزمات متراكمة في كل القطاعات. فبدلاً من فرض قرارات قاطعة تزيد من معاناة الفقراء، يجدر بالدولة تبنّي سياسة نقل عادلة، مرنة، وتنموية، تعترف بواقع الحال وتسعى لتنظيمه، لا خنقه.
فـ"التوك توك" ليس مشكلة بحد ذاته، بل مرآة لأزمة أكبر... وإن لم تُعالَج هذه الأزمة بمنظور اجتماعي واقتصادي شامل، فإن حظر المركبة لن يوقف الغضب، بل سيزيد من سرعته، تماماً كما يفعل “التوك توك “في أزقة المدن المحرومة.