في أروقة القصور العثمانية، حيث كان السلطان سليمان القانوني يدير شؤون الإمبراطورية بين همسات الحريم وأحاديث الحكماء، ولدت طقوس القهوة التركية بكل ما تحمله من دفء وغموض. وبين رشفات بطيئة وفناجين مقلوبة، بدأت عادةٌ فريدة تنسج خيوطها في الخيال الشعبي: قراءة الفنجان.

لم تكن مجرّد تسلية عابرة، بل تحوّلت إلى فن رمزي يُعرف بـ "التاسيوغرافي" (Tasseography)، يقوم على تأويل الأشكال المتكوّنة من بقايا القهوة في قاع الفنجان، واستكشاف خبايا النفس واستشراف المستقبل من خلالها.

من أين بدأت الحكاية؟

تعود أصول التبصير إلى الصين القديمة، حيث كان العرافون يقرؤون أوراق الشاي في أكواب الخزف. ومع انتشار القهوة في الإمبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر، انتقلت الفكرة من الشاي إلى القهوة، وتحديدًا في إسطنبول، تزامناً مع صعود نجم القهوة التركية كجزء من الحياة اليومية في البلاط العثماني، وُلدت عادة قلب الفنجان بعد شربه، وبدأت النساء في الحريم السلطاني يتداولنَّ فن قراءة الرسوم المتبقية كنوع من التسلية وربما التنبؤ بمستقبل غامض.

ويروى أن السلطان سليمان القانوني (1494–1566)، الذي حكم واحدة من أعظم مراحل الدولة العثمانية، كان من محبي القهوة، وكان يسمح بجلسات قراءة الفنجان داخل القصر، كوسيلة لجمع النساء أو حتى استشارة مبطنة في قضايا شخصية أو سياسية.

فن الرموز: ما الذي يخبرك به فنجانك؟

في قراءة الفنجان، لا تُترك الرسوم المتكوّنة من بقايا القهوة عشوائية، بل تُفسَّر بحسب شكلها ومكانها داخل الفنجان. ومن أبرز الرموز المتكررة:

- الطائر: رسالة أو خبر سعيد في الطريق.

- القلب: علاقة عاطفية أو ارتباط قريب.

- العين: حسد أو مراقبة من شخص مقرّب.

- الشجرة: جذور عائلية أو استقرار.

- الخاتم: زواج أو شراكة قريبة.

- الطريق: سفر أو تغيير جذري.

من العرّافة إلى الذكاء الاصطناعي

قد يظن البعض أن التبصير بالفنجان حكرٌ على الجدّات والجارات أو قارئات البخت في الأسواق، لكن المفاجأة أن الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT، بات قادرًا اليوم على قراءة الفنجان أيضًا! من خلال تحليل صورة للفنجان المقلوب، يمكن للنظام تفسير الأشكال بناءً على قاعدة بيانات رمزية واسعة. وبالرغم من أن العنصر الروحي أو "الحدسي" ما زال مفقودًا، إلا أن التكنولوجيا تفتح الباب أمام جيل جديد من "قارئي الفنجان الرقميين".