ما كاد بناء لبنان الحديث يكتمل، حتَّى طالعته أزمات وسياسة محاور، لم تنفع معها كلُّ المحاولات الَّتي بذلتها العهود في تحييده عنها، ليس أوَّلها "نكبة فلسطين" وبالتَّالي اندلاع الصِّراع العربيِّ – الإسرائيليِّ، عام 1948، ولا آخرها الخلافات النَّاصريَّة – السَّعوديَّة، ولا أزمة قناة السُّويس، ولا الانقلابات العربيَّة خصوصاً في العراق وسوريا، ولا حرب الأيَّام السِّتَّة عام 1967، ولا أيلول الأسود في الأردن، ولا حرب تشرين الأول عام 1973، ولا قبول قادة فلسطينيين لبنان وطناً بديلاً مع ما جرّ ذلك من مشكلات، أدت إلى اندلاع الحرب في لبنان عام 1975.

ونادرة كانت المحطَّات في هذا التَّاريخ الحديث الَّتي لم تشهد تدخُّلات أجنبيَّة، دوليَّة وإقليميَّة، في شؤون لبنان الداخليَّة، من انتخاب رئيس للجمهوريَّة، إلى تفضيل رئيس حكومة على آخر، إلى فرض دساتير واتِّفاقات، اتِّفاق الطَّائف أبرز إفرازاتها... بدأت تلك التَّدخُّلات فرنسيَّة – بريطانيَّة، لترسو على ناصريَّة – سوريَّة، ومن ثمَّ أميركيَّة وسعوديَّة وعراقيَّة، فسوريَّة طاغية بمشاركة سعوديَّة، وبرعاية أميركيَّة، وكذلك طبعاً فلسطينيَّة وإيرانيَّة، من دون إغفال دور الاتِّحاد السُّوفياتيِّ الَّذي وإن لم يكن مباشراً، ترك انعكاساته بحكم صراع الجبَّارين طوال سنوات الحرب الباردة، ولا دور إسرائيل الَّتي شنَّت حروباً بالجملة، أبرزها حرب العام 1982، وكانت نتيجتها احتلال العاصمة بيروت، وإبعاد منظمة التحرير الفلسطينية، وأقساها الحرب التي بدأت في 7 تشرين الأول 2023، وما زالت مستمرة بوتيرة يومية، على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي قيل إنه أنهى "حرب الإسناد" التي دعم فيها حزب الله، حركة "حماس"، في "طوفان الأقصى".

وما إن حانت لحظة انتزاع السِّيادة والحرِّيَّة والاستقلال عام 2005، لِتَقاطُع مصلحة المنادين بها من اللُّبنانيِّين، مع مصالح دول القرار، ولا سيَّما منها الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، حتَّى خيِّل إلينا أنَّنا سنتعلَّم من تجارب الماضي ونتَّعظ ونحصِّن أنفسنا في وجه التَّدخُّلات، فإذا بقسم كبير من الطَّبقة السِّياسيَّة يجرُّ الخارج إلى تفاصيلنا الداخليَّة. فها هي الولايات المتَّحدة الأميركيَّة حاضرة ناضرة، حتى اللحظة، عبر ممثِّليها الدَّائمين في لبنان، موفدين أو سفراء. وكم طغت معادلة "السِّين – سين" على مفاصل من الحياة السِّياسيَّة تتحكم بها، فإذا توافقت السَّعودية وسوريا سهلت الأمور، وإذا تباعدتا خربت عن بَكرة أبيها، من دون أن ننسى العامل الإيرانيَّ الحاضر قويّاً، وإن تراجع نفوذه، بفعل التطورات الأخيرة. ومع اندلاع الحرب في سوريا، لم تمنع سياسة ما سُمِّي النَّأي بالنَّفس، أفرقاء لبنانيِّين من الاصطفاف في المعسكر الموالي للنِّظام السُّوريِّ أو في المعسكر المناوئ له. إلى أن برزت أخيراً أرجحيَّة سعوديَّة على السَّاح اللُّبنانيَّة، بعدما خلت للمملكة، وحدها دون غيرها من الدول.

خلاصة القول إنَّ التَّدخُّل الخارجيَّ مرفوض. هكذا يفترض بوطن سيِّد حرٍّ مستقلٍّ أن يكون. لكنَّه أمر واقع، يقبله البعض ويا للأسف، وما زال بعض أكبر يرذله.

أمَّا الأدهى... فحين تكون الدَّولة المتدخِّلة منقسمة على نفسها بين تيَّارين أو أكثر، في النَّظرة إلى الوضع في لبنان – واللبيب من الإشارة يفهم - فلا يقع، حينذاك، بين شاقوفي التَّدخُّلات الخارجيَّة، بل بين شاقوفي الشَّاقوفين... وحلَّها إن كان من حلٍّ.

أمَّا أدهى الأدهى فأن يرضى حكَّامنا بهذا الوضع، ويروحوا يدوزنون سياساتهم على إيقاعاته، ولو نشَّزوا، ويرهنون اللُّبنانيِّين لرهاناتهم وحساباتهم الخاصَّة الضَّيِّقة، كأنِّي بلبنان، في هذه الحال، لحاف يشدُّ به كلٌّ منهم ليدفأ هو، ولو عانى الآخرون الصَّقيع، فيتمزَّق اللِّحاف، ويموت الجميع... من البرد.

وأمَّا أدهى أدهى الأدهى... فأن يتفرَّج الشَّعب على هذه المهزلة، من دون احتجاج أو اعتراض أو انتفاضة أو ثورة، لا بل تراه يجدِّد لاستمرارها من خلال إعادة انتخاب من تسبَّب بكلِّ مآسيهم وأزماتهم، في شكل عاطفيٍّ أو نفعيٍّ أو تعصبيٍّ أو عقائديٍّ.

إلَّا إذا استمرأ اللُّبنانيُّون، من ضمن هذه المهزلة الكبرى، مهازل الكراكوزات الَّذين يكثرون، من سياسيين ومحللين ومؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، واندفاعة المتعصِّبين الَّذين يحتلُّون الشَّاشات والسَّاحات، وتصرُّف نائب "قبضاي" بالكلام والزَّند، يمثِّل الأمَّة، كما يفترض به أن يكون، أو تصرف وزير هو جزء أساس من السُّلطة، فينتقد السلطة، أي إنه ينتقد نفسه من ضمنها...

مهزلة يجب أن تنتهي، في غمرة الحراك الذي أعقب زيارة البابا لاون الرابع عشر، وتُرجم بتسمية مدني لبناني، وآخر إسرائيلي، عضوين في لجنة "الميكانيزم"، قيل إنها ستجنِّب لبنان، ولو موقتاً حرباً تهول بها إسرائيل على لبنان، إذ من يضمن أن ترضى بالانصياع إلى شروط وضعتها، ولا تطلب المزيد كلما نالت مبتغاها. وقيل أيضاً إن السيناريو الخاص بخطوة ضم مدنيين إلى لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، رسمته الولايات المتحدة الأميركية بتفاصيله المملة... وما في يد لبنان حيلة.

لا التَّدخُّل الأجنبيُّ هو المسؤول، ولا التَّباين ضمن إدارة الدُّول المتدخِّلة، ولا حكَّامنا المالكون سعداء على كراسيِّهم وحدهم. المسؤول الأوَّل والأخير هو نحن، أي الشَّعب. وإذا لم نعبر عن موقف، اليوم قبل غد، فلنتحمل غداً النتائج... ولكن فلندرك، من الآن، أن صوت الشعب من صوت الله.