هل الأزمة الاقتصادية اللبنانية نظامية (Systemic crisis)، أو غير نظامية؟ سؤال يعيدنا إلى الإشكالية "الميتافيزيقية": أيهما ولد قبل، الدجاجة أم البيضة.

تمترس خلف نظامية الأزمة المصرفية اللبنانية فريق عريض من اللبنانيين، وفي مقدّمة هذا الفريق تأتي المصارف نفسها، وجمعيتها، ومصرف لبنان، وطيف واسع من المسؤولين والخبراء والمعنيين. ويُعنى بـ"الأزمة النظامية" أنها شاملة، و"تطال بنية الدولة ونظامها المالي"، على حد وصف أمين عام جمعية المصارف د.فادي خلَف، في افتتاحية التقرير الشهري الأخير للجمعية. وهي تتطلب معالجة مختلفة تماماً عن الأزمة القطاعية، تنطلق بشكل أساسي من إلزامية تغطية الدولة خسائر مصرف لبنان، وإعادة الأموال التي أودعتها المصارف لديه، ورفض مبدأ تصفير أصول المصارف.

الأزمة نظامية

يستند فريق "الأزمة النظامية" إلى مجموعة من الحجج والمبررات، وضّحها خلَف بمجموعة من النقاط، أبرزها:

- وضوح الأسباب الكامنة وراء الانهيار المالي، والتي تتجاوز بكثير دور المصارف.

- التمسك باحترام قرار مجلس شورى الدولة الصادر في شباط 2024، والذي كرّس مبدأ عدم المساس بحقوق المودعين.

- التمسك بتطبيق المادة 113 من قانون النقد والتسليف، التي تلزم الدولة بتغطية خسائر مصرف لبنان، والتي على أساسها أودعت المصارف أموالها لدى المصرف المركزي.

- التأكيد على العلاقة التجارية التي تربط المصارف بمصرف لبنان (المادة 13 من قانون النقد والتسليف)، بما يترتب على ذلك من حقوق والتزامات.

موقف صندوق النقد من الأزمة

إذا كان من حق هذا الفريق المحاججة بنظامية الأزمة، وحشد كل المبررات لدعم صحة نظريته، فإنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال الإدعاء أنّ صندوق النقد الدولي يوافق على هذا الطرح. وقد برز مؤخراً ترويجُ بعض الجهات مقولةً مُفادها أن صندوق النقد الدولي اعتبر في تقريره الصادر في حزيران 2023 أن الأزمة المالية – النقدية في لبنان هي "أزمة نظامية (Systemic Crisis)، في محاولة لإسناد هذا التوصيف إلى الصندوق، واعتماده لتبرير نقل كامل الخسائر إلى الدولة أو المودعين. وهذا كلام عار عن الصحة برأي المحامي المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية الدكتور باسكال فؤاد ضاهر. وبرأي ضاهر، فإن قراءة التقرير قراءةً حرفية وموثّقة تُظهر أن التقرير المستنَد إليه (IMF Country Report No 23/237- June 2023) يتضمن قسماً بعنوان: (Authorities’ Views) أي "وجهات نظر السلطات". ويشير هذا العنوان صراحة إلى أن ما يرد تحته هو رواية السلطات اللبنانية نفسها وليس رأي صندوق النقد الدولي ولا توصياته.

وبالعودة إلى النص المقتبس من العبارة التالية (they emphasized the systemic nature of the financial crisis) في الفقرة 21 من هذا القسم؛ يعني أن "السلطات شددت على الطبيعة النظامية للأزمة" وهي لا تعبّر بأي شكل عن موقف صندوق النقد الدولي.

وبحسب ضاهر فإن الفقرة التي تقول إن "العديد، ومنهم السلطات، يعتبرون الأزمة نظامية"، هي أيضاً عرض لآراء جهات محلية وليس تبنّياً من الصندوق. وما يثبت ذلك ما ورد في الصفحة 51: (Many, including the authorities, argue that the crisis is systemic) وهذه صياغة لغوية واضحة تُستخدم في التقارير الدولية للدلالة على أن الصندوق ينقل رأياً لمسؤولين محليين ومحللين، لا يعبّر عن موقف الجهة الدولية نفسها.

منهجية تقارير الصندوق

انطلاقاً من طريقة صياغة التقارير الدولية، فإن منهجية صندوق النقد تنطلق من عرض موقف السلطات ثم عرض موقف البعثة، مع التمييز بينهما. كما أن تقارير المادة الرابعة (Article IV) تتبع منهجية ثابتة، وهي تخصص قسماً لعرض تقييم فريق الصندوق (Staff Report)، وقسماً مستقلاً أخر لعرض موقف السلطات اللبنانية (Authorities Views)، وقسماً ثالثاً لبيان ممثل الدولة لدى الصندوق. وبالتالي فإن "إسناد أقوال هذا القسم إلى الصندوق يخالف قواعد قراءة التقارير، وينمّ عن تحريف واضح يرمي الى غاية غير حميدة"، من وجهة نظر ضاهر.كما ان توصيف الصندوق للأزمة يرد حكما في أقسام أخرى ضمن التقرير، وهي تختلف بوضوح عن الصياغات التي تستخدمها المصارف، وقد سبق للصندوق أن وصف الأزمة اللبنانية بتقارير اخرى بانها انهيار مالي ناجم عن اختلالات عميقة في السياسات المالية والنقدية. ويشدّد على ضرورة تحمّل المساهمين (shareholders) والمصارف الخسائر وفق "تسلسل الأولويات" (hierarchy of claims)، ولم يستخدم في تقييمه الرسمي عبارة (systemic crisis) لوصف الأزمة، بل نقل هذا التعبير على لسان السلطات.

بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر، فإن "استخدام عبارات منقولة عن السلطات باعتبارها موقفَ "صندوق النقد الدولي" يشكّل تضليلاً للرأي العام"، برأي ضاهر، و"تقديم رأي السلطات اللبنانية كما لو أنه رأي صندوق النقد، هو مغالطة جوهرية تخلّ بشروط النقل العلمي، وبقواعد الشفافية التي يفترض أن تحكم الخطاب، خصوصاً في ظرف مالي دقيق".

خلافاً للعلوم الماورائية، فإن الاقتصاد علم مادي، وهو يرتكز على الأرقام والمؤشرات والتحليل العلمي. ومع هذا يبقى فرعا من فروع العلوم الاجتماعية، ما يعني أن نتائجه غالباً ما تكون قابلة للتأويل وليست حتمية. وسواء كان البعض مقتنعاً، أو لديه مصلحة في أن تكون الأزمة نظامية، فإن هذا يبقى رأيه الخاص.