منذ أن "طلعت ريحة البلد" قبل عقدٍ من الزمن، وحتى اليوم، لا تزال النفايات تنشر سمومها في فضاء الوطن، وفضلاتها على شواطئه. فبدلاً من الانتقال من الطمر العشوائي إلى المعالجة المسؤولة بعد إقفال مكب الناعمة في عام 2015، أنشئ مكبّان مركزيان: الأول في الأوزاعي، والثاني في الدورة، إضافة إلى مئات المكبات في المناطق، تُطمر فيها آلاف الأطنان من دون معالجة. العذر؟ عجز البلديات عن تشغيل عشرات معامل الفرز التي أُنشئت، بسبب ارتفاع الكلفة التشغيلية، وتراجع الموارد المالية، وعدم قانونية تقاضي مبالغ من المكلفين لنقل ومعالجة النفايات.
في محاولةٍ لتخفيف حدّة الأزمة، أقرت لجنة المال والموازنة النيابية إعطاء البلديات صلاحية جمع ومعالجة النفايات، مقابل رسم رمزي. وتتراوح قيمة هذا الرسم بين 5 و20% من الحد الأدنى للأجور، بالنسبة للمكلفين العاديين والمؤسسات والإدارات العامة، في حين يصل الرسم إلى 400% بالنسبة للمؤسسات الصناعية والمنتجعات السياحية، بوصفها الأكثر إنتاجاً للنفايات. وبرأي رئيس اللجنة، النائب إبراهيم كنعان، فإن القرار نابع من "الرفض المطلق لمطامر الموت". ولذلك، أكد عقب اجتماع "اللجنة"، أن "اللامركزية الإدارية التي ننادي بها أساسية، لإعطاء الصلاحيات للبلديات من دون تحميلها الأعباء، ما يُفعّل العمل البلدي، ويُعطي المجال للتمويل، ويُخفف من الأعباء المركزية التي تتكبدها خزينة الدولة". متمنياً "تحول هذا القرار إلى قانون بعد إقراره في الهيئة العامة".
خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن!
القرار الذي اتخذته لجنة المال والموازنة يُشكّل خطوة في الاتجاه الصحيح، ويلبّي مطلباً لطالما نادى به رؤساء البلديات. ولكن، كي لا نغرق مرة جديدة في البيروقراطية الرسمية، ونكرّر أخطاء الكهرباء والمياه، "من الأفضل إقرار بدل ماليّ لجمع النفايات ومعالجتها، وليس رسماً"، برأي رئيس "المعهد اللبناني لدراسات السوق"، الدكتور باتريك مارديني. فـ"الرسم هو ضريبة يدفعها جميع المكلّفين من دون تمييز أو استثناء، سواء قامت البلدية بالعمل المطلوب منها أم لم تقم"، يؤكّد مارديني، "في حين أن تقاضي البدل المالي يكون مقابل عمل فعلي تقوم به البلدية في ما خصّ جمع النفايات ومعالجتها". وممّا يزيد الأمور تعقيدا، أن من غير الواضح إلى الآن، إن كان الرسم سيدخل مباشرة إلى صندوق البلديات، أم سيذهب إلى الصندوق البلدي المستقل، الذي يعود ويوزع العوائد على البلديات بعد عدد من السنوات. و"هذا ما يعيدنا إلى النظام الفاشل الذي تتعاقد فيه الدولة نيابة عن صاحبة المصلحة، اي البلدية. وذلك على غرار ما حصل في إنشاء معامل الفرز، ومحطات التكرير، وشبكات مياه الشفة. وغيرها الكثير، مع رافق هذه العملية من تشتيت للصلاحيات بين المؤسسات العامة المعنية، ومجلس الإنماء والإعمار، والجهات المانحة، ووزارات المهجرين والأشغال والصناديق. وقد أدت هذه الفوضى غير المنظمة إلى تضييع الهدف الأساسي. وفي حال كررناها فيما خص معالجة النفايات، "نكون نموّل نظام أثبت فشله"، يضيف مارديني، "مع ما رافقه من هدر وفساد ومحسوبيات".
المحاسبة المتبادلة
هذا من جهة. أمّا من الجهة الثانية، فإن "تقاضي بدل مالي يتيح للبلدية التعاقد مع شركة خاصة لتولّي المهمة. وفي حال السماح لأكثر من شركة بالعمل في هذا المجال، فإن هذه الآلية تُحفّز المنافسة، وتحسّن جودة تقديم الخدمة، وتحدد الأسعار بناء على قواعد العرض والطلب في السوق. وليس عبر إسقاطات قد لا تكون عادلة بالنسبة للمواطنين، أو حتى قادرة على تأمين الخدمة"، وهو الأساس الذي يشدّد عليه مارديني.
الفرق بين الرسم والبدل المالي، في بلد مثل لبنان، شاسع. ولنا في تجارب الخدمات العامة التي تُقدّمها، أو بالأحرى لا تُقدّمها، المؤسسات الرسمية خير برهان. فهناك الرسم الثابت على عداد الكهرباء الذي يدفعه المواطن سواء تأمنت الخدمة أو لم تتأمن. وهناك رسم إلزامي على اشتراك المياه، تبلغ قيمته 16 مليوناً و500 ألف ليرة سنوياً، ومع ذلك، المياه مقطوعة بشكل شبه دائم، فيما يدفع المكلفون ما يقارب 300 دولار إضافية لتأمين هذه الخدمة من مصادر بديلة. وهناك أيضاً رسم تضعه البلديات على الأرصفة والمجارير؛ لكن الأرصفة، إن وُجدت، تأكلها الأعشاب، والمجارير "مفلّتة" في الأنهر والمشاعات.
وإذا سلّمنا جدلًا بأن البلديات أو المؤسسات العامة تؤمّن الخدمات على أكمل وجه، فإنها غالباً ما تُحرج، أو تجد مصلحة في عدم قطع الخدمة عن المكلفين الذين يتأخرون عن الدفع، إمّا بدافع الزبائنية والمحسوبيات، أو لأغراض انتخابية. وهذا ما يقوّض العائدات، ويدفع لاحقاً إلى تدهور الخدمة.
في المقابل، فإن التعاقد مع شركة خاصة يُخلّص البلديات من هذه المعضلة. ولنا في "كهرباء زحلة" خير مثال: ففي الوقت الذي تتدنّى فيه نسبة الجباية إلى أقل من 50% في معظم المناطق اللبنانية، تصل الجباية في "كهرباء زحلة" الخاصة إلى 99%. والأمر نفسه ينطبق على أصحاب المولدات، الذين يَجْبون 100% من الفواتير، وفي حال عدم التسديد، تُقطع الخدمة فوراً.
في المقابل فإن تلزيم هذه المهمة للقطاع الخاص، يزيد من قدرة المواطن على محاسبة الشركة المقصرة، من خلال وقف التعامل معها. وهذا ما لا يستطيعه في حال التعامل مع البلدية. وعليه، يضمن الحل المحاسبة المزدوجة، وهي الأساس لنجاح أي مشروع.
البدل المالي مقابل الخدمة الفعلية
هذا هو النموذج الذي يجب أن يُعتمد، برأي الدكتور باتريك مارديني، في ما يتعلّق بملف النفايات: نموذج قائم على البدل المالي مقابل الخدمة الفعلية، يضمن حسن إدارة هذا الملف، وتشغيل المعامل، والتخلّص من النفايات، بدلاً من فرض مزيد من الأعباء على المواطنين، من دون القدرة على تقديم الخدمة المطلوبة. وبهذه الطريقة، تتحرّر البلديات من عبء إدارة هذا الملف الشائك، وتُحقق إيرادات من خلال الضرائب والمزايدات التي تُجريها لتلزيم الشركات. وتكون النتيجة "رابح رابح" على كافة المستويات: البلدية تربح من التلزيمات، والمواطن يستفيد من خدمة بجودة عالية وتكلفة منخفضة، والشركات تجد مجالا للاستثمار في قطاعات منتجة، والمجتمع يستفيد من خلال توظيف اليد العاملة، وتخفيض فاتورة التلوث، وتنشيط المناطق سياحيا وزراعياً. ويمكن بحسب مارديني للشركات أن "تنطلق من الهامش الذي حدّدته لجنة المال والموازنة (بين 5% و400%)، لتحديد الأسعار بناءً على قواعد السوق". وهذه هي الطريقة الفضلى لكسر الاحتكارات، وتأمين خدمات فاعلة ومستدامة.
على المشرّعين مسؤولية كبيرة في إعادة تصويب مقترح لجنة المال والموازنة قبل إقراره، تفادياً لتكرار الأخطاء ذاتها. فـ "من جرّب المُجرَّب، كان عقله مُخرَّب".
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
comment@alsafanews.com