في صفحات الروايات العالمية، يطلّ علينا دون كيخوت عام 1605 كرجل نحيل يركب حصاناً هزيلاً ويحمل رمحاً قديماً منطلقاً في مغامراته ليحارب قوى الشر، لكن خصومه لم يكونوا جيوشاً ولا وحوشاً، بل... طواحين هواء!
من هنا وُلد مفهوم "الدونكيشوتية"، الذي تَحوّل من شخصية روائية أسطورية، إلى رمز عالمي لحالة نفسيّة وفكريّة يعيشها الإنسان حين يصرّ على مطاردة أوهام، ومواجهة خصوم غير موجودين، مقتنعاً بأحلام مثاليّة هي في الحقيقة أوهام تتجاهل الواقع.
لم تبقَ "الدونكيشوتية" حبيسة صفحات الأسطورة، بل أصبحت مصطلحاً يُستخدم لوصف أشخاص أو جماعات يخوضون معارك عبثية، يرفضون الاعتراف بالحقائق الماثلة أمامهم ويستمرون في الركض وراء طموحات غير واقعية. هي حالة رومانسية في ظاهرها، لكنها مأساوية في نتائجها، لأنها تصطدم بوقائع الحياة الصلبة.
ففي السياسة، قد يظهر القائد "الدونكيشوتي" الذي يتوهّم بأن قدرته على تغيير نظام قائم منذ عقود بالقوة، متجاهلاً موازين القوى الموجودة، وفي المجتمع يمكن أن نجد ناشطاً يشنّ حرباً ضد أعداء غير موجودين، أو مفكراً يرفع شعارات كبرى دون خطة عمليّة أو منطقيّة للوصول الى مبتغاه. وحتى في حياتنا اليومية، قد نصبح "دونكيشوتيين" حين نطارد فكرة مثاليّة عن النجاح أو المجد، غير مدركين أن الواقع يسير في اتجاه آخر.
ما يجعل "الدونكيشوتية" رواية مشوّقة، هو هذا التناقض بين النبل والسذاجة، فصاحبها قد يبدو شجاعاً لأنه يقاتل من أجل أفكارٍ جميلة، لكنه في الحقيقة يقاتل أوهاماً. لذلك نجد هذه الرواية مزيجاً من الكوميديا والتراجيديا... نضحك من عبثية المواقف، لكننا نحزن لأن الإنسان "الدونكيشوتي" غالباً ما ينتهي محطّماً، وقد يخسر نفسه قبل أن يخسر معركته.
بقيت "الدونكيشوتية" حتى يومنا هذا، لأنها تعبّر عن جزء من عقلية الإنسان الذي يميل الى الأحلام والأوهام حتى لو كان يعلم بأن تحقيقها مستحيل. صحيح أن الواقع يفرض علينا حدوداً، لكن "دون كيخوت" يذكّرنا أيضاً أن الروح البشرية لا تكفّ عن حبّها للثورة على القيود ولو بالخيال، وهنا يكمن سحرها... فهي دعوة للتفكير في "شعرة معاوية" إذا صحّ التعبير بين المثالية والجنون وبين الشجاعة والعبث.
باختصار... "الدونكيشوتية" ليست مجرّد كلمة من الكلمات التي تَداول بها الناس منذ عدّة قرون، بل هي مرآة نرى فيها أنفسنا حين نتشبّث بحلم يتحدى المنطق... هي أيضاً تحذير من السقوط في أوهام لا طائل منها... لكنها ببساطة، هي تذكير بأن أجمل ما في الإنسان هو قدرته على الحلم حتى لو انتهى به المطاف الى مقاتلة أوهام تسيطر على عقله.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
comment@alsafanews.com