أعظم الحروب هي التي تتحقق أهدافها بلا خوضها وأشرف الحروب تبقى ملطّخة بالأخطاء لا بل بالخطايا أحياناً مهما بلغت أحقية أسبابها. إلا أن الأسوأ من الحروب هو استمرار نكء جراحها والمتاجرة بأوجاعها وتحريف وقائعها عوض امتلاك جرأة الاعتذار وتنقية الذاكرة وبلسمة الجراح.
في لبنان حيث الذاكرة منهكة و"فزّاعة" الحرب حاضرة دوماً، ثمة من يحترف ذلك بغية نسف أي جسور تواصل. يضخّ عبر مواقفه شحنات من التشنّج والحقد غير آبه بأن "الجمر تحت الرماد" دوماً ويتبرّع بلعب هكذا أدوار: يستحضر صفحات من الحرب وفي أحيان كثيرة مجتزأة أو محرّفة في إطار شدّ العصب لدى جمهوره أو حرف الأنظار عن وقائع تزعجه أو الهرب الى الأمام من استحقاقات حتمية وأسئلة مشروعة.
وهذا هو واقع الحال ردّاً على الرسائل والاسئلة التي وجّهها رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في خطاب أيلول السنوي خلال إحياء ذكرى شهداء "المقاومة اللبنانية". وإن وجّه رسائل عدة من معراب يبقى الأبرز رسالتي الطمأنة الأولى لبيئة المكوّن الشيعي والثانية لبيئة "حزب الله" تحديداً. فشدّد على أن "سلاح "حزب الله" غير الشرعي لا يحمي الشيعة وإنّما يحتمي بهم ولا يؤمّن مصالحهم بل يغرقهم في مخاطر وحروب وجوديّة، باعتبار أنه لم يكن يوماً ضمانةً لهم أو مرتبطاً بكرامتهم وشرفهم وأن المعادلة التي تدّعي بأن تسليم السلاح سيؤدي الى إضعاف الطائفة الشيعيّة وانتهائها هراء وافتراء، فعمر الشيعة في لبنان ضارب في التّاريخ، وعزّتهم وأمنهم وكرامتهم من عزّة لبنان وأمنه وكرامته".
كما خاطب جعجع بيئة "الحزب" قائلاً: "أكثريّة اللّبنانيّين، لا ترضى أن يصيبكم ما أصابنا في حقبة الوصاية السابقة بعد أن سلّمنا سلاحنا، فالأيّام اختلفت والظّروف تغيّرت، لا غازي كنعان ولا رستم غزالة، ولا سلطة وصاية جائرة تعمل لمصلحة نظام الأسد ووفْق مفاهيمه، بل سلطة وطنيّة انبثقت عن مجلس نيابيّ حقيقيّ، ساهمنا جميعاً، أنتم ونحن، في انتخاب أعضائه، وتحت أنظار حكومة كنتم أكثريّةً فيها".
التخوين واستحضار الحرب بشكل معتور لا يقتصر على "الحزب" بل يشاطره النهج باسيل الذي عاد الى معزوفة "ربط الخبز"
لكن ما هي إلا ساعتان على إنهاء جعجع خطابه حتى ردّ المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في بيان عليه. اللافت أن ردّه على رسائل جعجع لم يكن على المضمون بقدر ما كان بالعودة الى رمي الاتهامات بـ "الصهيونية" و"الدموية" والعودة إلى مراحل الحرب. فتوجّه له بالقول: "سلاح المقاومة هو الذي استردّ لبنان يوم كُنتَ بالمشروع الآخر، والشيعة مثل المسيحية براء من المشروع الصهيوني والذبح على الهوية وكل أنواع الخراب الهائل الذي طال بنية هذا البلد وروح طوائفه، وما زالت المجازر والأشلاء شاهداً تاريخياً على من خاض بالفتنة وشرب من نقيعها الأحمر، ولك أقول: للسيادة جبهات وأنت لست منها (...) والشيعة والمسيحية بلد واحد وقلب واحد، لكنك لستَ منها لأنّ للتوبة الوطنية شروطاً ولم تَحُزْهَا...".
يبدو أن الشيخ قبلان متخصص بالردود السريعة وهذا ظهر جلياً ليس فقط في هذا الرد بل بردوده المتكررة على البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وليس آخرها عقب إطلالة الأخير الشهر الماضي عبر "العربية" إذ عالجه ببيان خلال ساعة تعليقاً على دعوته "الحزب" لتسليم سلاحه الى الدولة. اعتبر قبلان أنه "سلاح الله" واصفاً من يدعو الى نزعه بـ "مجنون وفارغ ورخيص" وقائلاً "من يريد إسرائيل فليرحل إليها".
كلام قبلان يندرج في سياق مواقف "الحزب" التخوينية خصوصاً لـ "القوات اللبنانية" ورمي الاتهامات جزافاً كقول عضو المجلس السياسي في "الحزب" محمود قماطي إن "سلاح القوات اللبنانية يخزّن في المستودعات بكثافة وبمدّ أميركي" و"كلنا نعرف تاريخ جعجع وتاريخ هذا الحزب بالدم والقتل، الذي لم يستثن أحداً من اللبنانيين".
"الحزب" بحاجة دائما لخصم كي يشدّ عصب جمهوره ويلهيه عن التفكير بالأسئلة المنطقية التي تعلو هنا وهناك: كيف حمى "الحزب" الطائفة؟ ما جدوى قتاله دفاعاً عن نظام الأسد الذي حصد آلاف الشباب الشيعة؟ لماذا عليهم دفع ثمن مواقفه العدوانية لدول الخليج عبر التضييق عليهم؟ لماذا عليهم أن يصبحوا منبوذين عالمياً ويعانوا للحصول على تأشيرة سفر لدول العالم؟ ما جدوى الانخراط بحرب "وحدة الساحات"؟ لماذا تركتهم إيران لمصيرهم ولم تتدخل عسكرياً لردع العدوان الإسرائيلي؟ متى سيأتي الإعمار ومن سيموّل ما لم يسلّم "الحزب" سلاحه؟
جعجع يدرك جيداً أنه لا يمكن بناء المستقبل بالتلهّي بأسرى الماضي
التخوين واستحضار الحرب بشكل معتَوِر لا يُقتصَر على "الحزب" بل يشاطره النهج رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل الذي عاد الى معزوفة "ربط الخبز" والاجرام متناسياً المصالحة وطي الصفحة التي أقِرّت في "اتفاق معراب" والهدف الاستثمار الانتخابي عشية الاستحقاق النيابي المرتقب مبدئياً في ربيع 2026.
أهمية خطاب جعجع انه لم يستدرج الى مستنقع الردود ولم يأتِ حتى على ذكر باسيل. إنه أراد ان يحاكي الوجدان الشيعي غير آبه بمواقف كالتي تصدر عن قبلان فهي متوقعة وممجوجة. فهو يدرك أنه ليس بحاجة للتذكير بتاريخ "الحزب" أو "العونيين" الدموي أو بمسارهم الإداري ولا بعدم جرأتهم على الاعتذار كما فعل هو عام 2009، فمعظم اللبنانيين عاشوا تلك الحقبات ولم يمرّ عليها الوقت بعد.
جعجع يدرك جيداً أنه لا يمكن بناء المستقبل بالتلهّي بأسرى الماضي. كما يعلم أن المفتي قبلان اليوم لا يختلف عن الوزير السابق عمر مسقاوي الذي كان مكلفاً في زمن الاحتلال السوري الرد الفوري كل يوم أحد على عظات البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير... رحل الجيش السوري وخُلع نظام الأسد وتحرّر لبنان وتحقق هدف صفير الذي أضحى "بطريرك الاستقلال الثاني". فهل من يتّعظ من التجارب؟