يُشبه حال كثير من صغار المدّخرين اليوم، في ظل استمرار ارتفاع أسعار الذهب، حالَ زارع التبغ في أغنية مارسيل خليفة "يا سعدى خيرا بغيرا"، الذي ظلّ يُراهن على تحسُّن الموسم ليتزوج سعدى، لكنه لم يحصد سوى خيبة الانتظار. فكما ظلّت "الغلّة" تخيّب أمل العاشق عاماً بعد عام، ينتظر المدّخر الصغير تراجع سعر الذهب شهراً بعد آخر ليدخل السوق في الوقت المناسب. غير أن الأسعار تأبى الهبوط، والفرصة تتلاشى .لا الموسم تحسّن، ولا الذهب انخفض... فطار الزواج، وطار الاستثمار.

يوم أمس استقر سعر الذهب عند أعلى مستوى له على الإطلاق، مقترباً من مستوى 3600 دولار للأونصة. ليكون بذلك قد حقق ارتفاعاً بنسبة 37% منذ بداية العام. وإذا ما أضفنا الارتفاعات المحققة في العام 2024، بنسبة 27% يكون سعر الذهب قد ارتفع في غضون أقل من عامين بنسبة 64%. بمعنى آخر من اشترى مطلع العام الماضي ذهبا بقيمة 1000 دولار فقط، لكان حقق ربحاً بقيمة 640 دولاراً.

ربح قياسي

من الناحية الاقتصادية تعطي زيادة الأسعار بنسبة 64% على مدى 20 شهراً، عائداً سنوياً على الاستثمار بنسبة 37.8%. وتعتبر هذه النسبة مرتفعة جدا بمقاييس الأسواق المالية، ولا سيّما مقارنة بثلاثة مؤشرات أساسية آمنة، هي أسعار الفائدة التي لا تدر عائدا بأكثر من 5%، وأسعار سندات الدين الحكومية الاميركية التي قد تصل إلى 4% لمدة عشر سنوات، ونسب التضخم، سواء تلك المسجّلة عالمياً أو محلياً. فحتى إذا أخذنا نسبة التضخم في لبنان التي يقدّرها الإحصاء المركزي هذا العام بحدود 15%، فإن العائد على استثمار الذهب سيكون مضاعفا. وقد تكون المقارنة بمستوى التضخم هي الأكثر جدوى لكون تقديرات العائد الحقيقية على الاستثمارات يجب أن تكون أعلى من التضخم، لئلا تخسر النقود قوتها الشرائية.

شراء الذهب الآن منطقي؟

لعل هذا هو أكثر أسئلة المدّخرين إلحاحاً، خصوصاً من لا خبرة لديه للاستثمار في الأسواق العالمية، ويطمح لتوظيفها في أصل آمن يحقق له عائداً مالياً مجدياً بدلاً من أن "يأكلها" التضخم.

في الحقيقية لا إجابةَ واحدةً على هذا السؤال، يمكن "إلباسها" لكل المستثمرين. فإذا كان الهدف هو الاستثمار على المدى القصير سعياً لتحقيق الأرباح، فإن المستثمر قد لا يربح الكثير. إنما إذا كان الهدف الاستثمار الطويل الأجل بهدف حماية المدّخرات أو تأمين تعويض لائق في نهاية مسيرة العمل، فإن الذهب هو حتما الملاذ الأفضل، بغض النظر عن الأسعار المرتفعة المحققة اليوم، وذلك انطلاقاً من اعتماد استراتيجية بديلة عن محاولة "توقيت السوق"، أي الشراء عندما تكون الأسعار منخفضة، والمبادرة إلى الشراء بشكل منتظم. وتوفر هذه الآلية شراء كمية أكبر من الذهب عندما يكون سعره منخفضاً، وكمية أقل عندما يكون سعره مرتفعاً. وفي النهاية، يحصل المستثمر على متوسط تكلفة أقل وأكثر أستقراراً. وتعرف هذه الألية أو الاستراتيجية، بـ "متوسط ​​تكلفة الدولار (Dollar Cost Averaging). ولنجاح هذه الآلية لا يكفي أن يكون الهدف الاستثمار الطويل الأجل فحسب ، إنما أيضاً يجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية استثمار مبلغ ثابت من المال بانتظام، بغض النظر عن السعر المحقق، فلا يعود ارتفاعه أو انخفاضه يؤثر سلباً على المستثمر.

الأوان لم يفت بعد

انطلاقا مما تقدم فان شراء الذهب يعتبر استثماراً ناجحاً حتى في ظل استمرار ارتفاع الأسعار. وبحسب التوقعات فإن الأسعار لن تتراجع في الأمدين القريب والمتوسط للعديد من الأسباب أهمها:

- تزايد التوقعات بتخفيض الفدرالي الأميركي أسعار الفائدة خلال هذا العام. فخفض أسعار الفائدة يقلّل تكلفة الفرصة البديلة لحيازة الذهب، ويضعف الدولار، ما يجعل الذهب أرخص للمستثمرين الحاملين عملات أخرى.

- شراء البنوك المركزية الذهب بكميات كبيرة، كالبنك المركزي الصيني الذي شترى الذهب للشهر العاشر على التوالي.

- حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي السائدة، والتي تمثلت أيراً في حدثين أثارا قلق العالم، وهما: العرض العسكري الصيني الأكبر تفي اريخ الصين بمناسبة الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، والذي أرادت منه توجيه رسالة للعالم عموماً وأميركا خصوصاً استعدادها لمواجهة أي سيناريو حربي، وتغيير الإدارة الأميركية اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، وهو ما ترك انطباعاً بانتقال أميركا من الدبلوماسية الناعمة إلى القوة الخشنة.

إزاء هذه التطورات قد يكون لبنان الذي يملك نحو تسعة ملايين و221 ألف أونصة ذهب من أكبر المستفيدين من ارتفاع أسعار المعدن الأصفر. فقد ارتفعت قيمة احتياطي الذهب في المصرف المركزي إلى حوالي 33 مليار دولار. ويؤكد هذا الرقم مرة جديدة عدمَ صوابية الآراء التي شجّعت منذ سنوات على التصرف بالذهب بيعاً أو رهنا لسدّ حاجات داخلية معظمها استهلاكي، كشراء الدواء والقمح... والاهم انها تطرح جدلية جديدة حول كيفية الاستفادة من هذه الثروة الخامدة من دون أن نؤثر على أصل المبلغ المرشح للازدياد في الفترات المقبلة، ولا سيّما في ما يتعلق بالتعويض على المودعين الذين خسروا مدّخراتهم وجنى عمرهم.

يغيب عن بالنا في الكثير من الأحيان أن الذهب يشبه الوقت في العديد من الجوانب. شراء الذهب لحماية المدّخرات من التضخم وعدم اليقين الاقتصادي، يمثّل شراءً للوقت، بما تعنيه هذه العملية الأخيرة من تأمين المستقبل، وتأخير الخسارة، والتحوّط ضد المفاجآت.