بعد انحسار عاصفة التعليقات على بعض عبارات الموفد الأميركي توم برّاك في مواجهة "فوضى" الصحافيين، وانكشاف توظيفها السياسي في أوساط ووسائط "حزب الله" الملتزمة تاريخياً بـ "الأدبيات الإعلامية والسياسية" عبر لغة التهديد والتخوين، تعود السياسة إلى أصولها، والمأزق اللبناني إلى حقيقته، وشروط الإنقاذ إلى نصابها العقلاني.
ليس تفصيلاً أن يكون للوفد الأميركي المتعدد والمتنوّع بين الإدارة والكونغرس الخطاب نفسه في المضمون والشكل، وفي الثبات على الأفكار والمبادئ وسبُل المعالجة والحل، فبين قصر بعبدا وعين التينة والسراي تحدّث على الأقل أربعة من هذا الوفد، بعضهم بإسهاب وآخَر باقتضاب، ولم يسجِّل عليهم المراقبون أي تضارب أو تناقض أو خلل أو زلل.
هذا يعني مدى وضوح الرؤية الأميركية، بل المشروع الأميركي، في حلّ الأزمة اللبنانية عبر وضعها في سياقها المزدوج بين جارتَي لبنان سوريّا وإسرائيل، ولعلّها صدفة مدروسة أو مقرّرة أن يَحلّ اليوم وفدٌ سوري رفيع ضيفاً على بيروت مباشرةً بعد مغادرة الوفد الأميركي، تنفيذاً للشق المتعلّق بسوريّا في الخطة الأميركية المعروفة بـ "ورقة برّاك"، خصوصاً لجهة ترسيم الحدود ومعالجة الملفّات الأخرى العالقة بين الدولتَين، وأبرزها موضوع النازحين السوريين والمعتقلين السوريين في لبنان والمفقودين اللبنانيين في سوريّا قبل أن يتمّتعديل موعد الزيارة إلى وقت لاحق.
حقيقة أُولى تقول إن الخطّة الأميركية تخطّت مسألة المقايضة أو "البازار" بين الشروط الإسرائيلية ونزع سلاح "حزب الله"، مع الاحتفاظ بمبدأ "الخطوة مقابل خطوة" شرط أن تكون الخطوة الأولى من الجانب اللبناني، فالقرار الذي اتخذته الحكومة اللبنانية ب"حصر السلاح" في جلستها الشهيرة (٥ آب ٢٠٢٥) كان قراراً تأسيسياً وليس تنفيذياً، على أن يبدأ التنفيذ بعد تقديم قيادة الجيش برنامجها مع انتهاء الشهر الجاري، وإقراره في جلسة تالية لمجلس الوزراء.
حقيقة ثانية تنهض على معادلة رابح وخاسر أو منتصر ومهزوم، بحيث لا يستطيع الجانب اللبناني، وتحديداً "حزب الله"، أن يُملي شروطه على الجانب الإسرائيلي، واستطراداً الجانب الأميركي، لا سيّما أن "الردع" العسكري الإستراتيجي الذي شغل به "الحزب" دنيا الإعلام والسياسة و"الممانعة" سقط سقوطاً مريعاً ولم يعُد هناك مجال لإنعاشه وترميمه.
وليس من الواقعية في شيء تهويل أمينه العام الشيخ نعيم قاسم وسائر قياداته بالحرب على الدولة اللبنانية مع التهديد بالفتنة الطائفية، بعد فشل حربهم على إسرائيل، فلا يمكن التعويض عن الانكسار هناك بالانتصار هنا، تحت طائلة تراكم فشلَين أو هزيمتَين.
حقيقة ثالثة أن الرهان على الإسناد الإيراني لا وظيفة له سوى ضخ الوعود الخُلّبية في البيئة المأزومة التي يعِدونها بسلاح الغَيب أو"الغَيبة الكبرى"، وبمليارات الإعمار المجهولة المصدر. فإيران منهمكة في تدبير شؤونها بعد الحرب الأخيرة، ومتلهّفة لإحياء المفاوضات حول برنامجها النووي، لعلّها تحظى برفع جزئي للعقوبات كي تُنعش نظامها المأزوم مع الداخل والخارج، وليست في وضع يسمح لها باستخدام "الحزب" في لعبة الابتزاز مع واشنطن.
واستمرار "الحزب" في التشدّد ورفض شروط التسوية والحل يزيد عزلته اللبنانية والعربية والدولية، ويجعله منخرطاً في اتجاه واحد غير مرتدّ هو الانتحار، فهل هذا الاتجاه هو خياره الفعلي، أم أنه من باب رفع السقف للحصول على مكاسب سياسية و"عسكرية"؟
قد يكون هناك مَن أشار عليه بهذا التشدد (وهل هناك غير مرجعيته في طهران؟)، إلى درجة الخطر الأكبر، بهدف تحقيق هذه المكاسب، كموقع في القرار العسكري مثلاً أو ازدواجية الدفاع بين "مقاومة" وجيش، ومربّعات مسلّحة خاصة وامتيازات حرية التنقّل بالسلاح، وحماية سكك التهريب والتهرّب من رسوم الجمارك كما هي الحال الآن، إضافة إلى مواقع في السلطة تنسف توازنات الدستور واتفاق الطائف.
لكنّها رهانات نظرية غير قابلة للتطبيق، حتّى ولو استندت إلى وعود من الرعاة والوسطاء والمشرفين، لأن اللعب بالتوازن الدقيق بين المكوّنات اللبنانية يفتح الباب على أزمات خطيرة جرى طيّها سابقاً ولو على زغَل، وليس مسموحاً أن يُعاد إنتاجها تحت وهم الغلبة بالعدد أو الأكثرية المذهبية أو الاستقواء بالسلاح الذي ولّت وظائفه.
والثابت أن جهة وحيدة ترعى وتوجّه وتطرح الحلول هي الإدارة الأميركية، وهي باتت شديدة الوضوح في خطّتها المطروحة لإنقاذ لبنان بجميع مكوّناته ومن بينها "حزب الله" بالتحديد، ولا خيار آخر أمام الدولة اللبنانية كي تساوم وتفاضل أو تماطل، كما لا خيار آخر أمام "الحزب" نفسه، فلماذا التعنّت والمكابرة ورفع السقوف الوهمية؟
وحدها الحسابات العاقلة والباردة تهدي الضالّين إلى سواء السبيل.
فهل لا تزال هناك زاوية للحكمة في الرؤوس الحامية؟