تتوالى الخسارات في الاقتصاد اللبناني من كل حدب وصوب. بعضها مرئي ومحتسب كأكلاف التهريب الجمركي والتهرُّب الضريبي، وبعضها الآخر مستتر كأكلاف العطلات الكثيرة، وحوادث السير المريعة. المفاجأة أن كلفة ما يتم التعتيم عليه، عن قصد أو جهل، توازي كلفة ما يوضع تحت الضوء والتمحيص، هذا إن لم يفُقْهُ كلفة.

أعلنت "الجمعية اللبنانية للإحصاء والتدريب والتنمية" في دراسة حديثة تسجّيل لبنان عدداً هائلاً من حوادث السير على الطرقات في الأعوام القليلة الماضية، وارتفاعاً متزايداً في أعداد ضحاياها. وبالأرقام:

- وَقَع في العام 2023 نحو 2303 حادثاً أودت بحياة 439 شخصاً وأصابت حوالي 2726 آخرين.

- وفي عام 2024 ارتفعت الحوادث إلى 2365 حادثاً، وارتفع عدد القتلى إلى 443 فيما بلغ عدد المصابين نحو 2655.

- وفي الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 وحدها، وقع 876 حادثاً أسفر عن 162 قتيلاً وأكثر من 1034 مصاباً"


لكن مهلاً، ما علاقة الحوادث بالاقتصاد؟

"تُكلّف حوادث الطرق معظم الدول حوالي 3% من ناتجها المحلي الإجمالي، وترتفع الكلفة في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى 5%"، بحسب تقديرات "منظمة الصحة العالمية"، التي تعود للعام 2015. "وترتفع التكاليف العالمية أكثر إذا لم تُراعَ في الإحصاءات المتاحة تمثيلاً كافيا للوفيات والإصابات، وإذا أُخذت التكاليف الاجتماعية للألم والمعاناة في الاعتبار بشكل كامل. وقد قدّر البرنامج الدولي لتقييم الطرق iRAP، أن حوادث الطرق الخطيرة تُكلّف العالم أكثر من 2200 مليار دولار سنوياً، أو 6.1 مليار دولار يومياً.

كلفة الحوادث في لبنان

بالعودة إلى لبنان، و بالاستناد إلى أرقام منظمة الصحة العالمية، نستنتج أن الثمن الذي يدفعه الاقتصاد سنوياً جرّاء الحوادث، يصل إلى مليار و400 ألف دولار بالحد الأدنى، انطلاقاً من ناتج محلي يبلغ 28 مليار دولار، بحسب تقديرات وزارة المالية. ولمن يستهين بهذا الرقم أو لا يأخذه على محمل الجِدّ، فهو يساوي ثلاثة أضعاف ما استدانه لبنان من البنك الدولي منذ العام 2020 لتمويل برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً. وهو كفيل ببناء معمل كهرباء ينتج ما لا يقل عن 500 ميغاواط كل عام. كما أن هذا الرقم يفوق الرقم الذي يطمح لبنان لتحصيله من العائدات الجمركية لهذا العام. وهو يؤمن وحده نحو 30 في المئة من إيرادات الموازنة العامة، ويوفّر على المواطنين فرض المزيد من الرسوم والضرائب. ويشكل نحو 50 في المئة من القرض الذي يأمل لبنان الحصول عليه من صندوق النقد.

المشكلة متجذّرة

مشكلة حوادث السير في لبنان ليست جديدة، والأكيد أنها لا تعود إلى العام 2023 وما بعده. فبحسب دراسة معمقة لمجلة "التقدم في دراسات النقل" (ATS)، المتخصصة في ملاحقة سلامة وفعالية وكفاءة واستدامة وسائل النقل في الدول، تحت عنوان "الدراسة الهجينة لتكلفة حوادث الطرق في لبنان (2010–2022)"، يتبين أن معدل الوفيات السنوية من حوادث السير وصل إلى 1000 شخص. فالبيانات الرسمية المتعلقة بحوادث المرور في لبنان لا تشمل سوى ما يقرب من 50 في المئة من معدل الوفيات السنوي المتوقع. وقد بيَّن البحث أن متوسط الكلفة السنوية منذ العام 2010 بلغ حوالي 1.3 مليار دولار، وشكلت النفقات المتعلقة بالمركبات 5.4 في المئة من إجمالي التكاليف، بينما شكلت نفقات الإنتاجية 9.4 في المئة.

ارتفاع نسبة الوفيات من الحوادث

غياب الأحكام القانونية المصممة لحماية مستخدمي الطرق المعرَّضين للخطر، بمن فيهم المشاة وراكبو الدراجات النارية، يؤدي إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة وفيات حوادث المرور، والتي تتراوح بين 30 و40%.

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة

أسباب حوادث السير كثيرة، لكنها تعود بالجزء الأكبر منها إلى عاملين إثنين يعكسان "فقر" الدولة، وهما:

- سوء أوضاع البنية التحتية من طرقات وإنارة، ونزع أغطية عبارات المجاري وتصريف المياه من الطرقات، وسوء أعمال التأهيل.

- ضعف الرقابة، والتراخي في تطبيق قانون السير وفرض العقوبات على المخالفين.

وبحسب رئيس جمعية "اليازا" زياد عقل فان "عدم تطبيق قانون السير، يعتبر من العوامل المباشرة في ارتفاع حوادث السير". وقد تواصلت الجمعية مع وزير الداخلية، مطالبة إياه بـ "التشدد في تطبيق القانون، وإعادة تشغيل مراكز المعاينة الميكانيكية للمركبات الآلية، ولا سيّما في ظل ضعف صيانة السيارات بشكل ذاتي". لكنّ "السلامة المرورية لا تعتبر أولوية"، يقول عقل، و"هو ما يدفع إلى تحقيق لبنان أرقاماً قياسية في الوفيات والخسائر. فقد تجاوز عدد الوفيات في شهر آب الحالي وحده 44 حالة وفاة، ذلك أن عددا من الجرحى يتوفون لاحقاً من دون أن يتم الإعلان عنهم". وقد أكدنا كجمعية على وزير الصحة أهمية أن "تصدر أرقام الوفيات عن المستشفيات، كونها أكثر دقة".

الحل في تطبيق القانون

التصدي لهذه المشكلة المستفحلة يتطلب تعاون العديد من الجهات، وأهمها:

- قوى الأمن، لجهة تفعيل الرقابة على الطرقات وإصدار رخص السوق. والتشدد بالالتزام ببروتوكولات سلامة القيادة المعمول بها، إذ يتضح من التقارير أن 15% فقط من ركاب المقاعد الأمامية يستخدمون أحزمة الأمان بانتظام. ووضع حد للفوضى المتفاقمة الناتجة عن الانتشار العشوائي للدراجات النارية غير المسجلة والتي تسير من دون لوحات أو أوراق قانونية، ما يحوّل الطرقات إلى ساحة مفتوحة للمخاطر.

- لجنة الاشغال العامة والنقل التي يتحتم عليها الضغط لتحسين وضع الطرقات وصيانتها.

- القضاء الذي يجب أن يشدد العقوبات على المخالفين سواء المتسببين بالحوادث أو الذين ينزعون أغطية العبارات من الطرقات.

إذ ما جمعنا الكلفة الاقتصادية للعطلات الرسمية وغير الرسمية والتي قدّرناها في مقال سابق " لبنان يتقدم عالمياً في عدد العطلات الرسمية ويراكم الخسائر الاقتصادية" بنحو مليار دولار، مع كلفة حوادث السير التي لا تقل عن 1.5 مليار دولار، يمكننا ان نستنتج ان الاقتصاد اللبناني ينزف سنويا 2.5 مليار دولار جراء عاملين لا يأخذها أحد في الاعتبار.