القمة الأميركية الروسية الأخيرة التي عقدت في ألاسكا منتصف هذا الشهر والقمة التي تلتها في البيت الأبيض و استضافت رئيس أوكرانيا فولوديمير زلنسكي والقادة الأوروبيين محطتان بارزتان في مسار الحرب الروسية الأوكرانية. ورغم الدبلوماسية الرفيعة المستوى ومظاهر المودّة، أنتجت القمتان مزيداً من الغموض إذ لا يزال السلام المرتجى سراباً.
أنكورج: استعراض و مكاسب تكتيكية
غرقت قمة ألاسكا في الرمزية والإبهار وأعطت إشارات واضحة لإعادة بوتن إلى الدبلوماسية الدولية بعد عزلة سببها له غزو أوكرانيا في عام 2022. عدّ بوتن ذلك انتصاراً، إذ ظهر ندّاَ لترامب رغم استمرار اتهامه بارتكاب جرائم حرب وصدور مذكرة توقيف ضده من المحكمة الجنائية الدولية.
لكنّ القمة فشلت في تحقيق وقف لإطلاق النار أو بلوغ اتفاق ملموس. تصريحات ترامب عن "نقاط كثيرة تم الاتفاق عليها" بقيت غامضة وناقضها إصرار بوتن على معالجة "الأسباب الجذرية" للصراع. وهذا التعبير "استعارة" مجازية تخفي مطالبته بأن تتخلى أوكرانيا عن جزء من أرضها وعن توجُّهها الغربي. ترامب تخلى أيضاً عن إصراره السابق على وقف فوري لإطلاق النار، مفضّلاً الذهاب مباشرة إلى عقد صفقة سلام شاملة. عمليّاً، رفع هذا التحوّل الضغط عن روسيا ورماه على أوكرانيا لـ "إبرام صفقة"، رغم استمرار عمليات القوات الروسية الهجومية في دونباس وخيرسون.
قمة البيت الأبيض: توترات غير محلولة
أبرزت قمّة واشنطن تباين الأولويات بين كييف وشركائها الغربيين وبين واشنطن. شدّد القادة الأوروبيون على ضرورة وقف إطلاق النار كشرط أساسي للمفاوضات - وهو موقف أيده زلنسكي، مستشهداً بالخسائر المدنية الثقيلة التي تكبّدتها أوكرانيا الشهر الفائت والتي بلغت 1674 قتيلاً وفق بيانات الأمم المتحدة. ومع ذلك، ظل ترامب مركِّزاً على تنظيم اجتماع بين بوتن وزلنسكي، بحجة أن وقف إطلاق النار سيكون هشاً بدون تسوية سياسية أوسع.
شملت المناقشات أيضاً الضمانات الأمنية لأوكرانيا، ولكنها قصّرت عن إعطاء التزامات ملموسة. وأكد القادة الأوروبيون أنّ أي اتفاق سلام يجب أن يشمل حرية أوكرانيا في السعي للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. غياب موقف موحد بشأن العقوبات على روسيا أو تزويد أوكرانيا بالسلاح سلّط الضوء على الخلافات المستمرة بين ضفتَي الأطلسي. فترامب يفضل التحرك الثنائي على التنسيق المتعدد الأطراف.
أربعة شروط متعارضة للسلام
1. التنازلات الإقليمية مقابل السيادة: تظل مطالب بوتن، أي الاعتراف بالسيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك وزابوريجيا وخيرسون - غير مقبولة لأوكرانيا لأن أي صفقة تفرض تنازلاً عن الأرض من شأنها أن تشرّع الغزو وتقوض النظام الدولي.
2. الضمانات الأمنية: فيما تسعى أوكرانيا للحصول على حماية كتلك التي يوفّرها حلف شمال الأطلسي، ترفض روسيا ذلك. لم تحدد الولايات المتحدة وأوروبا بعد بديلاً موثوقاً للانضمام إلى حلف الناتو، كما أن تاريخ روسيا في انتهاك الاتفاقيات يثير الشكوك حول امتثالها.
3. الحوار المباشر: يشكل اجتماع بوتن وزلنسكي، الذي اقترحه ترامب كخطوة تالية، مخاطر جسيمة على كييف. بدون شروط مسبقة، يمكن أن يصبح منصة للدعاية الروسية أو الإكراه.
4. وحدة الحلفاء الغربيين: استمرار الاختلافات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين وتفضيل ترامب التحركَ الأُحادي بسبب تشكيكه في حلف الناتو يتناقضان مع تركيز الاتحاد الأوروبي على تعددية الأطراف والضغط بالعقوبات. غياب التماسك هذا يشجّع بوتن على استغلال الانقسامات.
تكلفة فشل الدبلوماسية
فشل هاتين القمتين في تحفيز عملية سلام ذات صدقية، سيفضي إلى عواقب تتجاوز أوكرانيا:
- أزمة إنسانية طويلة: بلغت الخسائر المدنية أعلى مستوياتها منذ شهر أيار 2022، بسبب هجمات المطيّرات والصواريخ الروسية البعيدة المدى. واستمرار الهجمات يعني سقوط مزيد من الضحايا وتدمير البنية التحتية.
- عدم استقرار الأمن الأوروبي: يستنزف الصراع الموارد العسكرية ويغذّي الانقسامات السياسية داخل حلف الناتو. تواجه دول مثل بولندا ودول البلطيق مخاطر متزايدة من الرغبة التوسعية لدى روسيا
- تحولات جيوسياسية عالمية: إعادة دمج بوتن تشجع قوى "رجعيّة" أخرى، ولا سيما الصين وكوريا الشمالية، التي تراقب نقاط الضعف في العزيمة الغربية.
- تآكل صدقية الولايات المتحدة: غموض موقف ترامب في ما خص بوتن وروسيا وتردّده بين أمر ونقيضه يقوّض الثقة في القيادة الأميركية.
- مخاطر نووية: انسحاب روسيا من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى واختبارها صواريخّ قادرةً على حمل أسلحة نووية يشيران إلى احتمال التصعيد.
الشرق الأوسط صراع مترابط
تكشف حربا أوكرانيا وغزة عن نمط من "الإمبريالية" في القرن الحادي والعشرين وإعادة النظر في المعايير الجيوسياسية. كلتاهما تتضمنان نزاعات إقليمية بالوكالة وأزمات إنسانية شديدة. يشير انخراط إدارة ترامب المتزامن في الحربين إلى استراتيجية لعزل إيران من خلال إضعاف حلفائها، مثل "حزب الله" في لبنان، وفصل موسكو عن طهران من خلال المبادرات الدبلوماسية.
وقد حوّل التركيز الأميركي على غزة الانتباه والموارد بعيداً عن أوكرانيا، بينما استفادت روسيا من حلفها مع إيران فتزوّدت بالمطيّرات والصواريخ للاستمرار حملتها في أوكرانيا. قد يؤدي إضعاف أذرع إيران في الشرق الأوسط إلى خلق مكاسب مؤقتة لإسرائيل، لكنه لا يفعل الكثير لمعالجة القضية الفلسطينية أو استقرار المنطقة.
حلّ أم سراب؟
لم تحقق قمتا أنكورج وواشنطن اختراقاً واصحاً بعد، بل كشفتا عن عدم تطابق الأهداف: تسعى روسيا إلى الانتصار بالدبلوماسية أو بالقوة، وتقاتل أوكرانيا من أجل البقاء، ويحاول الغرب تخطّي الخلاف الداخلي لتقديم المساندة.
في الوقت نفسه، يعاد تشكيل خريطة الشرق الأوسط من خلال مناورات القوة المحيطة بأوكرانيا. وتحاول الولايات المتحدة ممارسة الضغط والدبلوماسية في كلا المسرحين في وقت واحد. ومع ذلك، فإن استمرار العنف، وهشاشة وقف إطلاق النار، والمصالح الاستراتيجية المتنافسة تعني أن السلام المستقر لا يزال بعيد المنال.
ومع ذلك يقول المنطق إن الحلّ آت:
- روسيا لم تعد مرتاحة. خسائرها البشرية والمادية كبيرة واقتصادها منهك.
- أوكرانيا عاجزة عن الاستمرار بدون دعم غربي وعاجزة عن تعويض خسائرها العسكرية.
- أوروبا لا تستطيع الاستمرار في نزف مواردها الاقتصادية والمالية والعسكرية بدون أفق واضح.
- والولايات المتحدة تلاحق أهدافاً استراتيجية أكبر من أوكرانيا واستمرار الحرب تعرقل تحقيقها.