تتكون بيئة العمل اليوم من خليط متنوّع من الأجيال، يمتد من "الجيل الصامت" إلى جيل "Z"، ولكل جيل منظوره الخاص تجاه الوظيفة، أولوياته، وحساسياته التي قد تدفعه إلى مغادرة مكان العمل إذا لم يتم احترامها. هذا الاختلاف ليس مصدر تهديد كما قد يتصوّر البعض، بل هو عنصر قوة إذا ما أُدير بذكاء، وشكّل قاعدة لبناء ثقافة عمل شاملة ومتوازنة.
الجيل الصامت: الكرامة في الخبرة
يمثل الجيل الصامت – أولئك الذين وُلدوا قبل منتصف الستينيات (1928-1945) – جيلًا يعاني من قيمة التجربة والالتزام، ويشعر بالاستياء العميق إذا تم تجاهل خبرته أو اتخاذ قرارات مصيرية دون مشورته. هذا الجيل لا يبحث عن الأضواء، بل عن الاعتراف الصادق بقيمته داخل المؤسسة، ومجرد إقصائه من حلقات اتخاذ القرار يُعد كافيًا لدفعه نحو الباب.
جيل الطفرة: الولاء ليس بلا مقابل
أما جيل الطفرة، (1946- 1964) الذي نشأ في عصر الاستقرار والتوسع، فقد تشكّل على فكرة الولاء الطويل للمؤسسة. لكن هذا الولاء ليس مفتوحاً على بياض، بل مشروط بالاحترام والتقدير. تهميشه أو التقليل من تاريخه في الشركة يُشعره بعدم الأمان، ويدفعه أحيانًا لترك المؤسسة التي كان يوماً أحد أعمدتها.
جيل X: النظام هو مفتاح البقاء
جيل X الذي تلا جيل الطفرة، (1965 – 1980) يتميز بنظرته الواقعية والمنظّمة. هو الجيل الذي يرفض الفوضى، يكره الاجتماعات غير المجدية، ولا يقبل غياب التوازن بين العمل والحياة. يشعر بالإرهاق سريعاً في بيئات عشوائية، ويتوقع وضوحًا وفعالية في كل تفاصيل العمل. غياب هذه العناصر يعني فقدان ولائه.
جيل الألفية: التقدير والتطور قبل كل شيء
ثم نأتي إلى جيل الألفية (1981 – 1996)، الذي دخل سوق العمل وهو محمّل بتوقعات مرتفعة حول ما يجب أن يقدّمه العمل له، لا العكس. هذا الجيل يريد بيئة مرنة، تتيح له التطور، وتقدّر مجهوده بشكل دائم. هو لا يقبل أن يكون مجرد ترس في آلة، بل يبحث عن التغذية الراجعة المستمرة، والمكان الذي يشعر فيه أن لصوته وزنًا.
جيل Z: الوضوح أو الرحيل
وأخيرًا، جيل Z الذي يشكل الأحدث في بيئة العمل (1997 – 2012 )، لا يحتمل المهام الغامضة، ولا بيئة العمل التي ترفض التغيير أو تتعامل مع المرونة كترف. هو جيل سريع في قراراته، يبحث عن بيئة تشبه نمط حياته، واضحة، مرنة، وعادلة. أي إخلال بهذه الشروط قد يدفعه للمغادرة دون تردد، حتى قبل أن يمرّ على وظيفته شهر كامل.
الاستيعاب هو أساس الاستدامة
ويعلّق د . نادر القحطاني، استشاري الموارد البشرية وتطوير بيئة العمل، على هذه الظاهرة، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" بالقول: "الاحتفاظ بالمواهب اليوم لا يعتمد فقط على الامتيازات المالية أو العناوين الوظيفية، بل على قدرة المؤسسات على خلق بيئة تُشعر كل فرد بأنه مرئي ومفهوم. تجاهل اختلافات الأجيال هو السبب الأول وراء ارتفاع معدلات الدوران الوظيفي، خاصة بين الشباب. الشركات التي تنجح في قراءة احتياجات كل جيل، وتصميم برامج إدارية مرنة، هي من ستقود سوق العمل خلال السنوات القادمة."
بيئة العمل الذكية... هي التي تفهم هذا التنوع
الاختلافات بين الأجيال ليست عقبة بل فرصة. الفرصة لبناء فريق متكامل، يضم الخبرة، الانضباط، الكفاءة، الابتكار، والحيوية. بيئة العمل الذكية ليست تلك التي تفرض على الجميع شكلًا واحدًا من العمل، بل تلك التي تنجح في استيعاب هذه الفروق، وتُصمم ثقافتها الداخلية بحيث يحظى كل جيل بما يحتاجه ليشعر بالأمان والجدوى.
وفي النهاية، مفتاح الحفاظ على الكفاءات لا يكمن في الرواتب وحدها، بل في بناء ثقافة تحترم كل جيل، وتعرف أن الكل يريد شيئًا بسيطًا: أن يُعامَل بما يستحق.