من بين كل أصوات الحرب، هناك صوت واحد لا يُسمع، لكنه يُغيّر كل شيء. رصاصة واحدة تأتي من مكانٍ لا يُرى لتسقط عدواً وتختفي بلا ضجيج وبلا أثر. وهكذا، منذ ولادة أول قنّاصة وحتى اليوم، بقي هذا السلاح الغامض يتربّص على هامش المعارك، يصنع الفرق بالخفاء.

وُلدت فكرة القنص من حاجة عسكرية بسيطة وضروريّة بهدف التفوّق على العدو. فمنذ العصور الأولى، كان القوس والنشاب هو السلاح المستخدم، ومن ثمّ أتت البنادق القديمة التي أجبرت الرامي أن يكون أكثر من مجرد جندي، حتى وصلنا الى القنّاصة بصورتها العسكرية الحديثة والتي بدأت في التكوّن خلال الحروب النابليونية في العام 1807 تقريباً، وتبلورت أكثر خلال الحرب الأهلية الأميركية عام 1861، حيث بدأ استخدام "الرماة المحترفين" بشكل منظّم.

مع بدايات القرن العشرين، تغيّر شكل الحروب، فقد كانت الحرب العالمية الأولى أول ساحة تُصبح فيها الرؤوس التي تطلّ فوق المتاريس أهدافاً ثمينة، ومن هنا وُلد القنّاص. جندي لا يُرى، يختبئ في الظلال، ينتظر ساعات أو حتى أيام من أجل طلقة واحدة قد تقلب موازين المعركة.

لم يكن القنّاص مجرّد مقاتل يحمل بندقية، بل كان سلاحاً نفسياً مرعباً، فالرعب الحقيقي لم يكمن في صوت الرصاصة، بل في صمتها القاتل. أن يسقط عدوّك فجأة، من دون أن يَعرِف من أطلق النار ولا من أين، هو فنّ من نوع آخر، هو فنّ يزرع الخوف قبل أن يزرع الموت.

لكن العصر الذهبي الحقيقي للقنّاصة تجلّى في أزقة الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في شوارع "ستالينغراد" المدمّرة، حيث اختبأ القنّاصة السوفييت بين الركام، وهناك لمع نجم "فسيلي زايتسيف"، الذي تحوّل لاحقاً إلى أيقونة سينمائية بعدما قتل أكثر من 200 ضابط وجندي ألماني، وجعل من القنص رسالة مقاومة تُكتَب بالرصاص.

في المقابل، سارع الألمان إلى تطوير أسلحتهم وتكتيكاتهم، ولحق بهم البريطانيون والأميركيون. ومع تطور التكنولوجيا، لم يعد القنص مجرّد تصويب، بل أصبح عالماً معقّداً يقف خلفه عقل بارد يقرّر من يعيش ومن يموت، وتجاوز مسألة أن يكون مجرّد يد تضغط على الزناد، بل أصبح ظلّاً بشرياً يعيش صمت الحرب، يسجّل مذكراته مع كل طلقة يطلقها تحت وطأة التوتّر والترقّب.

وبالرغم من كل ما أُنجز من طائراتٍ مسيّرة وصواريخ ذكية وأنظمة متقدمة وتكنولوجيا متطوّرة، تبقى القنّاصة واحدة من أكثر أدوات القتال إثارةً للجدل، فهي ليست سلاحاً عشوائياً، بل أداة قتلٍ محسوبة تُخيفُ من عاينها قبل أن تطلق رصاصتها، وفي زمن الحرب الحديثة يظلّ القنّاص حاضراً لا يُحدث دوياً... بل يصنع سكوناً مخيفاً بعد الرصاصة.