يستمر ملف حصرية السلاح بيد الدولة، اي نزع سلاح حزب الله، مراوحاً في دائرة التعقيد، وقد جاء الرد الأميركي ـ الإسرائيلي رفضا للمقترحات اللبنانية التي أعلنها رئيس الجمهورية العماد جوزف عون في خطابه لمناسبة عيد الجيش، يزيد من التعقيد ويضع مجلس الوزراء في موقف حرج، قد ينعكس على مصير الحكومة المنقسمة أصلا حول هذا الملف الحساس.
هذا الرد الأميركي ـ الإسرائيلي الذي جاء قبل أن يجف حبر خطاب عون، أصرّ على قبول لبنان بالورقة الأميركية التي حملها الموفد الرئاسي توم برّاك كما هي، ويقضي بإصدار مجلس الوزراء اللبناني قراراً واضحاً بجدول زمني لنزع سلاح "حزب الله" من دون أي شروط مسبقة، وبناء عليه تقرر إسرائيل الالتزام بوقف إطلاق النار(الذي التزمه لبنان من جانب واحد منذ إعلانه في 27 تشرين الثاني العام الماضي) على أن يتزامن تنفيذُ نزع السلاح وتنفيذُ الانسحاب الإسرائيلي إلى خلف الحدود الجنوبية اللبنانية.
وقد طرح هذا الرد الأميركي أيضا والذي "لم يقطع" لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما تلقّاه، أسئلة وعلامات استفهام كثيرة حول أهدافه والخلفيات، في ظل توقعات بعدم صدور قرار عن مجلس الوزراء يغلّب نزع السلاح على وقف النار والانسحاب الإسرائيليين بل بالعكس تماماً، وعلى ما يبدو جاء هذا الرد، وبهذا التوقيت بالذات، ليضغط على المسؤولين للقبول بنزع السلاح أولاً وقبل أي شيء آخر من شأنه أن يلزم إسرائيل.
وثمة من سأل هل أن برّاك أرسل الرد إلى المسؤولين لقطع الطريق على عودة زميلته السابقة مورغن اُرتاغُس إلى مهمتها موفدة لبنان؟ أم أن جهة أميركية أخرى أرسلته ليس لعرقلة مجيء برّاك مجدداً وإنما للتأكيد أن هذا الملف وصل إلى مرحلة بالغة التعقيد؟ لكنّ الجواب أتى سريعاً من واشنطن أن السياسة الخارجية تبقى واحدة أين يكن الموفد.
والواقع أنّ تبايناً بين رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نوّاف سلام هو الذي أدى إلى وصول ملف حصرية السلاح بيد الدولة إلى مجلس الوزراء. فرئيس الجمهورية أورده في خطاب القسم الذي ألقاه بعد انتخابه أمام مجلس النواب، ورئيس الحكومة تبنّاه في البيان الوزاري لحكومته، ما جعله هدفا مشتركا بينهما، ولكنهما اختلفا على طريقة معالجته.
رئيس الجمهورية أدرك باكراً حساسية هذا الملف وخطورته ولذلك بادر إثر انتخابه إلى لقاءات تشاور في شأنه مع قيادة "حزب الله" تارة مباشرة وطورا عبر ممثلين له، وقد توصل الى تفاهمات معينة في شأنه مع الـ "حزب" الذي ابدى مرونة وتعاوناٍ تحدث عنها عون نفسه في مناسبات عدة، وكان شرط الحزب الوحيد هو أن تلتزم إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار وأن تتم معالجة السلاح ضمن حوار داخلي ينتج وضع "استراتيجية الأمن الوطني" المنصوص عنها في خطاب القسم والبيان الوزاري.
لكن رئيس الحكومة تحسّس من "طحشة" عون في ملف السلاح بمعزل عنه كرئيس لمجلس الوزراء، وزاد من تحسسه أن بعض المقربين منه شجّعوه على أن تكون له "طحشته" أيضا. إلا أنّ سلام وعلى رغم الرد الموحَّد على المقترحات الأميركية الذي أعده ورئيس الجمهورية ومجلس النواب، ذهب بدعم بعض القوى السياسية الداخلية إلى اقتراح عقد جلسة خاصة لمجلس الوزراء لإصدار قرار في شأن حصرية السلاح مستفيدا من ضغوط اميركية عبر برّاك وغيره من القنوات تؤيد مثل هذه الخطوة وتستعجلها.
وفي أي حال وبمعزل عما سيكون عليه موقف مجلس الوزراء فإن التوجه اللبناني المتفاهم عليه حتى الآن هو أن لبنان حاضر لتنفيذ حصرية السلاح بيد الدولة ولكنه يتمسك أولا بأن تلتزم اسرائيل وقف إطلاق النار والانسحاب إلى خلف الحدود وإطلاق الأسرى، ليتولى المسؤولون اللبنانيون ومؤسساتهم المعنية في المقابل معالجة مصير سلاح "حزب الله" وفق جدول زمني في إطار استراتيجية الأمن الوطني والمتفق عليها بالأحرف الأولى في ما بينهم وبين "حزب الله"، ووفق منطق خطاب القسم الرئاسي والبيان الوزاري.
لكن وعلى مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد" فإن الحكومة تتخفى خلف ملف السلاح وغيره لتغطي عجزها عن تنفيذ ما تعهدت به من إصلاحات وتعافٍ اقتصادي ومالي، لاجئة الى فرض مزيد من الرسوم والضرائب "الصامتة" التي تزيد إرهاق اللبنانيين ومعاناتهم المعيشية إرهاقا إذ تفاجئهم هذه الضرائب يوميا ورسوم لم يسمعوا عنها مسبقاً.
فما أنجزته هذه الحكومة إلى الآن هو بضع إصلاحات تخدم مصالح سياسية واقتصادية كبيرة تتخطى لبنان وإن كانت استجابة لمطالب الخارج قبل الداخل، فيما ما أقرّته من تعيينات إدارية وغيرها غلب عليها طابع "المحاصصة الناعمة"، إلى درجة أنها لم تنتظر ساعات على إقرار قانون السلطة القضائية المستقلة المنصوص عنه في "اتفاق الطائف" والدستور المنبثق منه، حتى سارعت إلى إقرار تشكيلات وتعيينات قضائية بعد تطويق ذيول اشتباك سياسي ـ اداري، حتى لا نقول أكثر، بين وزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء. وغالب الظن أن هذه الحكومة قد وضِعت أمام امتحان سيتوقف عليه مصيرها، وسيكون ملف حصرية السلاح أحد مواد هذا الامتحان، لإظهار مدى تماسكها وصلابتها. فالقضايا التي يفترض التصدي لها كبيرة، ولكن الإمكانات الحكومية متواضعة، خصوصا أن العواصم والدول التي دعمت هذه الحكومة لم تترجم هذا الدعم عمليا بعد، والطامة الكبرى هي أنّ الداعمين يرهنون تقديم الدعم بنزع السلاح، في الوقت الذي عليهم ان يفصلوا بين هذا وذاك، ولكنهم لم يفعلوا حتى الآن.