تشير مختلف التقارير الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات دولية عريقة إلى استعادة الاقتصاد اللبناني عافيته، ولا سيما لجهة مؤشرات الاقتصاد الكلي (Macroeconomics). وبقدر ما تبعث هذه المؤشرات المضاءة باللون الأخضر على التفاؤل، بقدر ما تثير المخاوف من أن تتلاشى سريعاً مع عدم تحقيق الإصلاحات المرجوة.
أصدرت وكالة "بلومبيرغ"، أخيراً نتائج استطلاعها للمؤشرات الاقتصادية الإقليمية للسنوات من 2024 ولغاية 2027. توقع الاستطلاع الذي شمل لبنان، إضافة إلى كل من المغرب تونس والاردن، أن "يحقق الاقتصاد اللبناني نمواً في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بنسبة 1.5 في المئة هذا العام، و4.4 في المئة في العام 2026 ويصل إلى 5.1 في المئة في العام 2027” بعد ما شهد انكماشاً كبيرا في العام 2024 قدرته وكالة موديز بـ(-7.4%) بسبب تداعيات الحرب.
النمو يرتفع والتضخم ينخفض
يترافق النمو في الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بحسب بلومبيرغ مع "تراجع نسب التضخم من 16.8 في المئة في العام الحالي إلى 14.2 في المئة في العام 2026، و9.2 في المئة في العام 2027". وتُعتبر هذه المعدلات على ارتفاعها الكبير مقارنة مع ما تستهدفه الدولة من تضخم لا يتجاوز 2 في المئة، أفضل بما لايقاس مع ما حققه لبنان في العام الثالث على الانهيار، حيث تجاوز التضخم عتبة 220 في المئة بالتوازي مع انهيار سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار.
إشكالية العجز في الحساب الجاري
النتائج الايجابية المحققة على صعيدي النمو والتضخم، يقابلهما استمرار ارتفاع نسبة العجز في الحساب الجاري. إذ توقع استطلاع بلومبيرع عجزاً بنسبة 15 في المئة في العام الحالي، وينخفض إلى 14 في المئة في العام 2026. وللعلم فان الحساب الجاري هو واحد من ثلاثة فروع تشكل ميزان المدفوعات إلى جانب الحساب المالي، وحساب رأس المال. ويتضمن الحساب الجاري الميزان التجاري، إضافة إلى المعاملات المالية الدولية التي يقوم بها البلدـ وأهمها تحويلات المغتربين. وهنا لب المشكلة.
الميزان التجاري حقق في العام 2024 عجزا بقيمة 14 مليار و200 مليون، إذ استورد لبنان بضائع ومنتجات بقيمة 16 مليار و900 مليون دولار، فيما صدر بضائع بقيمة مليارين و700 مليون دولار فقط. أما خلال العام 2025، فقد سجل الميزان التجاري خلال الأشهر الخمسة الأولى عجزاَ بقيمة 6 مليارات و660 مليون دولار بزيادة نسبتها نحو 15 في المئة عن الفترة نفسها من العام 2024. إذ بلغت قيمة المستوردات 8 مليارات و140 مليون دولار، والصادرات مليار و480 مليون دولار فقط. وبالنظر إلى ارقام الجمارك والزيادة التي يحققها لبنان في استيراد مختلف السلع والخدمات، من المتوقع أن يرتفع العجز في الميزان التجاري مع نهاية العام الجاري مقارنة مع العام الماضي، حيث بينت المعطيات ان كمية البضائع الداخلة إلى ميناء الحاويات في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025 هي الأعلى خلال فترة الأربعة أشهر منذ عام 2019. كما بلغ عدد السيارات المستوردة عبر مرفأ بيروت خلال الاشهر الاربعة الاولى من العام الحالي 13664 سيارة، مقارنة مع 11890 سيارة في الفترة نفسها من عام 2024، وبزيادة نسبتها نحو 13 في المئة.
الفائض الهش في ميزان المدفوعات
ارتفاع العجز المتوقع في الميزان التجاري في العام 2025، سيترك تداعيات سلبية على الحساب الجاري وبالتالي على ميزان المدفوعات. وسيقوّض كل الايجابيات المحققة على صعيد الاخير، الذي سجل لغاية نهاية نيسان الحالي فائضاً تراكمياً قدره 7 مليارات و842 مليون دولار، وهو فائض يفوق بكثير الفائض المسجل خلال الفترة نفسها من العام الماضي والبالغ مليارين و769 مليون دولار. ذلك مع العلم ان الفائض الكبير المسجل في ميزان المدفوعات مرده إلى ارتفاع في الأصول الأجنبية الصافية لمصرف لبنان والبنوك. وحوالي 6 مليارات و100 مليون دولار من هذا الفائض مرتبط بارتفاع أسعار الذهب، مما يترك فائضاً حقيقياً في ميزان المدفوعات قدره مليار و700 مليون دولار فقط. هو فائض هش معرض للاهتزاز سريعاً في حال استمرار العجز الكبير في الميزان التجاري.
استطلاع بلومبيرغ يتوقع ارتفاع عجز الموازنة إلى 1.7 في المئة في العام 2026، مقارنة مع عجز بنسبة 1 في المئة فقط هذا العام. وقد يكون مرد هذا الارتفاع هو اضطرار الدولة إلى زيادة الإنفاق، ولاسيما على البنى التحتية والتعويضات للمتضررين من الحرب الاخيرة، وزيادة الرواتب والأجور في القطاع العام.
التصنيف الائتماني "C"
النتائج المتوقع أن يحققها لبنان تأتي في الوقت الذي مازال فيه تصنيفه الائتماني متدنٍ جداً. لم تغير وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني تصنيفها للبنان، مبيقه إياه عند حدود C. ويعني هذا التقييم أن هناك مخاطر عالية جداً من عدم قدرة لبنان على سداد ديونه. وتتوقع "موديز" ان يتكبد حاملو السندات (الدائنون) خسائر قد تتجاوز 65 في المئة. خصوصا في ظل "تعثر جهود الإصلاح، نتيجة تحديات الاتفاق على كيفية توزيع الخسائر التي تجاوزت 70 مليار دولار أمريكي، بين الحكومة والبنك المركزي والمقرضين والمودعين". ومن غير المرجح أن يتغير تصنيف لبنان عن وضعه الحالي، "قبل اكتمال إعادة هيكلة الدين، نظراً لحجم التحديات الاقتصادية الكلية والمالية والاجتماعية، وتوقعاتهم بخسائر فادحة"، بحسب تقرير موديز. وأي تحسن في التصنيف السيادي مرهون بـ "إعادة هيكلة الدين، ووتيرة الإصلاح المالي والمؤسسي، وقدرة الحكومة على توليد الإيرادات، وتكيف الاقتصاد مع نموذج نمو جديد".
إذاً، في حال عدم تحقيق الإصلاحات، فإن ما يشهده لبنان لن يكون تعافياً إنما "صحوة الموت". فيستعيد الاقتصاد المريض قواه العقلية ووظائفة الإدراكية، وتتحسن حالته الجسدية بعد رحلة طويلة من المعاناة، إنما لوقت قصير جداً، ليعود ويدخل من بعدها في غيبوبة قد تكون أبدية، أو استمرار الشلل التام كما هي الحال في الاقتصاديات.