الصيد ممنوع. لافتة تطالعك أنَّى اتجهت على الأراضي اللبنانية، ولا سيّما منها الجردية. فالوزارات المعنيَّة حريصة على التوازن البيئي وعلى الطيور التي تُفيد المزارعين حين تقضي على الحشرات لتسدَّ جوعها، وعلى تلك الطيور المهاجرة التي تعبر فضاءنا، وتغادره لتعود.
لكنَّ اللُّبناني "الحربوق" يخالف الأمر. وتراهم صيَّادي لبنان متمنطقين ببزَّات الصيد وعدَّتِه والجفوت والخراطيش وكذبات "جدّي بو ديب"، ومغامرات "أبو العبد" في أدغال أفريقيا.
هل هم وحدهم يخالفون؟ حاشا وكلا.
وإليكم ثلاثة أنواع من المخالفين، ولا من يرفّ لهم جفن.
مذ دخل اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل، حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني 2024، سقط عشرات من اللبنانيين، على الطرق العامة، أو في المنازل والمحالّ، بغارات شنَّتها طائرات ومطيَّرات إسرائيلية، اصطادتهم كمن يصطاد طيوراً، حاصدة بدربها أبرياء، مهما كانت أهدافها دقيقة.
وترى الحكومة اللبنانية عاجزة عن وقف "مجزرة الصَّيد" هذه، أيّاً تكن أهدافها ومراميها، حتى إنها باتت تستكثر على الشهداء والضحايا بيان استنكار. لكن إعلامها ينبئنا أن المسؤولين يجرون اتصالات لوقف الاعتداءات الإسرائيلية... عبثاً. وأما المواطن اللبناني السالك الطرق في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، فيسير "على ما يقدّر الله"، موعوداً بأن يعاد بناء بيته المهدم، وبأن يعود إلى أرضه يزرعها ويعيش من خيرها، وبأن يمنع أيّاً كان من الصيد فيها... ولسان حاله يردِّد مع الشَّاعر غابي اسكندر حدَّاد:
بْلادي إِلي وْمَنّا إِلي بْلادي
يا حَسْرتي وْيا حَسْرِة وْلادي
هِنّي وْأَنا عْصافيرْ
وْكيف بَدّنا نْطيرْ
وِالدَّرْب؟ كِلّ الدَّرْب صِيّادي.
ويأتيك الموفد الأميركي اللبناني الأصل توم برَّاك بوجه بشوش، بخلاف وجه سالفته مورغان أُرتاغُس المضمِر كبرياء وصلفاً، وبأداء دبلوماسي ناعم عبّر عنه أخيرًا بأسلوب "الجزرة والعصا"، أيضًا بخلاف أُرتاغُس التي كانت تقف على أبواب القصور والسَّرايات تصرِّح كأني بها "تربِّي القمل" في رؤوسنا.
يأتي برَّاك بورقة من شروط مفروضة على السلطة اللبنانية، لإيجاد حل لسلاح "حزب الله"، ولو متفهِّماً صعوبة الموقف اللبناني الرسمي والإحراج الواقع فيه، إذ إن الأمر يتطلب روية وتفهُّماً وحواراً يطمئنُّ من جرائها "حزب الله" فيسلمّ سلاحه. أما اللجوء إلى القوة أو الفرض فقد يؤدي إلى مواجهات ليس في مقدور الوضع اللبناني الهش تحملها.
وتروح الرئاسات الثلاث تدرس الورقة وتكلِّف مستشارين من كل منها، لتُكبَّ على وضع تصورِ ردٍّ موحد يسلََّم إلى الموفد اللبناني الأصل حين يعود إلى بيروت بعد أيام. حتى الآن لم يُتّفَق على الورقة الموحدة، لا بل برز تشدُّد من الرئيس نبيه بري و"حزب الله"، بعدم تسليم السلاح.
تردَّد أن مهلة أميركية أعطيت للسلطة اللبنانية حتى الخريف المقبل، قد تُمَدَّد إلى آخر السنة. وتردد أيضاً أن إسرائيل لن تحتمل الانتظار، وقد تلجأ إلى "مخالفة أوامر منع الصَّيد"، وتستأنف حربها على لبنان. والله أعلم كم من "عصفور" لبناني سيسقط من جرّاء الحرب المفترضة، بعد خسارة أكثر من ستة آلاف ضحية في حرب الإسناد.
وثالثة الأثافي ما وصفه معارضون بالحرب الكيدية التي تصطاد صغار العصافير، تاركة من سرقوا أموال الناس في المصارف، يسرحون ويمرحون.
وعَدَ العهدُ والحكومةُ الناس بالإصلاح. حتى الآن، وبعد ستة أشهر، ثمّة مودعون كثر يتفرجون على ودائعهم وقد تبخّرت، ولا بارقة أمل بعودتها إليهم. كُثُرٌ منهم ادّخروا جنى عمرهم وتعويضاتهم لتقيَهم عوَز الشيخوخة، في غياب أي ضمان رسمي لتلك الشيخوخة، فإذا بهم يسقطون واحداً تلو الآخر بخرطوش المماطلة والتحايل والرياء والطمع والخداع. ضاع جنى العمر، فيما الذين هرَّبوا أموالهم من أصحاب النفوذ والمَحظيّين، يزيدون أرباحهم وأصفار اليمين على حساباتهم في مصارف العالم.
وعلى غرار مصير المدير العام للجمارك بدري ضاهر الذي أُوقِف في ملف تفجير مرفأ بيروت، من دون أي ذنب أو مسؤولية، ولم يعد بعد إلى مركزه، على الرغم من الوعود الكثيرة التي أغدقها رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، واستمرت الحكومة الحالية في عدم الأخذ بحق ضاهر في العودة؛ وعلى غرار مصير الضابط جوزف النداف، نجل الضابط شهيد حوادث الضنية ميلاد النداف، وقد أوقف سنة، وهو الذي حذّر من مخاطر نيترات الأمونيوم... يُحقَّق مع رئيس مجلس الإدارة المدير العام لكازينو لبنان رولان خوري وتصدر مذكرة بتوقيفه، هو الذي تقدم بشكوى قضائية على شركات القمار غير الشرعية عبر "الأونلاين". أمَّا تهمة خوري فـ"إهمال وظيفي" الأمر الذي لا ينسحب على الكازينو لأنَّه ليس إدارة عامة.
فلِمَ "المرجلة" على موظفين صغار في مرفأ بيروت؟ ربما لأنهم عصافير، مقارنة مع الطيور الجارحة التي ترفض حتى الآن المثول أمام المحقق العدلي؟ ومن دون استباق نتائج التحقيق، ما الهدف من استهداف رولان خوري الذي أعاد إلى المرفق الحيوي ألقه وأنواره، بشفافية وحرص على المال العام وضخّ في الخزينة أموالاً افتقدتها طويلاً؟ هل لأن أحداً ظنَّ أنه عصفور صغير يسهل صيده، ولا يمسّ أحد بأسماء كبيرة وردت في الملف نفسه؟
يكفي صيد وكيد...