تعيدنا الأيام سريعاً إلى عشية الثامن من حزيران 1967، "كلما دقّ كوز" الإصلاحات المالية، "بجرة" واجبات المسؤولين. ففي هذا التاريخ أقرت الحكومة اللبنانية بناء على تفويض تشريعي من مجلس النواب قانون "الكابيتال كونترول"، لمدة شهر تقريباً، بلمح البصر. وذلك بهدف منع خروج الودائع جراء اندلاع حرب الأيام الستة بين الدول العربية واسرائيل، وعدم استنساب المصارف في تعاملها مع مودعيها. في المقابل، أجهضت الطبقة "الاقتصا - سية" كل مشاريع الكابيتال كونترول، منذ اندلاع واحدة من أسوأ الازمات النقدية الداخلية على الصعيد العالمي في خريف 2019. وعندما لم يعد هناك من "كابيتال"، أقر مصرف لبنان "الكونترول" عليها في الاول من تموز الحالي، في التعميم الذي حمل الرقم 169.

بناء على الكثير من الاسباب الموجبة التي "حبّرت" صفحة كاملة، أصدر حاكم مصرف لبنان كريم سعيد التعميم 169 من مادة واحدة أساسية تقول: مع مراعاة أحكام القانون رقم 283/2022، يطلب من جميع المصارف العاملة في لبنان الامتناع عن تسديد أية مبالغ من الحسابات بالعملة الأجنبية المكونة لدى أي منها قبل تاريخ 17 تشرين الثاني 2019، سواء كانت مكونة لدى المصرف المعني أو تم تحويلها إليه بعد هذا التاريخ، بما يتجاوز السقوف المحددة في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان. وذلك دون الاستحصال على موافقة مصرف لبنان الخطية المسبقة.

ما يعني التعميم 168؟

بـ"العربي"، يمنع التعميم 169، المصارف من دفع أي مبلغ مالي من الحسابات القديمة "اللولار"، مهما كان السبب، إلا في حدود التعميمين 158، بسقف حده الأقصى 800 دولار، والتعميم 166، بسقف حده الاقصى 500 دولار. وحتى لو رفع المودع دعوى في الداخل والخارج للحصول على أمواله نقداً وربحها، على غرار ما حصل سابقاً مثلاً مع المودعة سميرة ميداني ضد "بنك سرادار"، أو المودع فاتشيه مانوكيان ضد "سوسيته جنرال وعودة".. وغيرها من الحالات، لا يمكن للمصرف تطبيقها. وقد برر التعميم مثل هذا الامتناع عن الدفع حتى لو كان الطلب محقا في المبدأ، فانه لا يمكن اعتباره كذلك في الازمات المصرفية، "إذ تحدث تمييزاً غير عادلٍ بين المودعين"، يقول التعميم، " بحيث يتم تفضيل المحظيين الذين يملكون مميزات خاصة بهم مقابل بقية المودعين في لبنان الذين لا تتوافر لهم ذات المعامة التفضيلية إذ تبقى ودائعن محجوزة كليا أو جزئيا".

القدوم متأخراً

التمعّن في قراءة أسباب التعميم الموجبة، تقودنا إلى الإعتراف مبدئياً بصوابيتها، إنما فعليا لا تنفك تذكرنا بإعلان "هلق عم تحكيني بالليسترين"، الذي تحوّل مثلاً شعبياً لبنانياً، يُضرب عند التأخر باعتماد الحلول. فمن بعد ما هربت عشرات مليارات الدولارات، ولاسيما في بداية الانهيار. وتم إخراج كل الودائع الائتمانية. وسُحبت مليارات الدولارات على أسعار صرف وهمية، تدرجت من 1500 ليرة إلى 15000 ليرة وبـ"هيركات" لم ينخفض عن 70 في المئة. وربح مودعون عشرات ملايين الدولارت من الدعاوى.. اتى ما يشبه الكابيتال كونترول بقرار أحادي وقبل إقرار اصلاح المصارف والتعافي المالي.

المودعون يعترضون

"تحت ذريعة " المساواة بين المودعين " نصّب مصرف لبنان اليوم نفسه وبالقوة كسلطة جديدة تعلو فوق جميع السلطات من التشريعية، التنفيذية والقضائية"، بحسب بيان صادر عن رابطة المودعين. و"قد التف بشكل واضح على ما حاولت المنظومة البائدة واللوبي المصرفي تمريره في قوانين الكابيتال كنترول التي أسقطناها مراراً، ولاسيما المادة 12 منها التي تنسف مبدأ الحق بالتقاضي بشكل أساسي". وقد رأت الرابطة في التعميم أنه:

- يضرب عرض الحائط مبادئ الدستور الأساسية. وأهمها حماية الملكية الفردية.

- ينسف حق الانسان بالتقاضي استيفاءً لحقوقه ومبدأ فصل السلطات.

- يتطاول على صلاحيات السلطة التشريعية وان كانت هي الأخرى متقاعسة.

- يحمي المصارف من الدعاوى القضائية.

- يكرس التداخلات السياسية بتخاذل السلطات وتكليف مصرف لبنان وضع الحلول المتجزأة كسباً للوقت.

مشاريع واقتراحات قوانين كثيرة للكابيتال كونترول

في العام الأول على الانهيار الاقتصادي، جرى تقديم ثلاث مسوّدات حكومية للكابيتال كونترول، لم يقدر لها أن تناقش في مجلس الوزراء، أو تتحول إلى مشروع قانون. ومن بعدها تقدم كل من النواب ياسين جابر (وزير المال الحالي)، سيمون أبي رميا، وآلان عون باقتراح قانون "كابيتال كونترول" معجل مكرّر من مادة واحدة. ولكن سرعان ما أسقط المجلس النيابي صفة العجلة عنه في جلسة 30 أيار 2020، وحوله إلى اللجان، ولم يخرج منها حتى كتابة هذه السطور. وفي نهاية العام 2021 تقدم النائب نقولا نحاس باقتراح قانون معجل مكرر لإقرار قانون الكابيتال كونترول أيضا، ولم يشق طريقه للنقاش والإقرار. وفي اذار 2022 أبصر النور اقتراح قانون جديد يرمي إلى وضع ضوابط استنسابية ومؤقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية ولم يتحول أيضاً إلى قانون.

فقدان الثقة

من مساوئ الأزمة المالية والمصرفية التي انفجرت أواخر سنة 2019، ان "الرأي العام اللبناني فقد ثقته كليا بكافة السلطات والمسؤولين وبات يشكّك بأي قرار أو تدبير يتّخذ حتى ولو كانت الغاية منه مصلحة الاقتصاد أو إنصاف المودعين"، يقول النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور غسان العياش. "وهذا ما بدا اليوم بعد أن أصدر حاكم مصرف لبنان كريم سعيد القرار الأساسي 13729 الذي حظر تسديد أية مبالغ من الحسابات بالعملة الأجنبية المكونة لدى المصارف قبل انفجار الأزمة، دون موافقة المصرف المركزي."

لقد توالت الانتقادات بصورة عشوائية ضد هذا التدبير، مع أنه "محقّ وعادل ويهدف إلى حماية حقوق شريحة واسعة من المودعين ضد أقلية صغيرة تستطيع تجاوز القيود التي فرضت قسراً على المودعين نتيجة الأزمة"، يضيف عياش. و"لقد لجأت هذه الأقلية إلى وسائل منها تقديم الدعاوى أمام القضاء الأجنبي للحصول على ودائعها لدى المصارف اللبنانية، مع أن هذا الطريق يتطلب تكاليف لا تملكها أكثرية المودعين، مما يؤدّي إلى تمييز قلّة من أصحاب الودائع على أكثرية أصحاب الحقوق". يبقى أن "تعميم حاكم مصرف لبنان هو تدبير متأخّر كان يجب اتّخاذه عند توقف المصارف عن الدفع في بداية الأزمة".

اسئلة مشروعة

تدبير مصرف لبنان تقني بحت ويطرح اسئلة أكثر مما يقدم من اجوبة:

- هل يجوز لحاكم مصرف لبنان إصدار قرارات مفصلية منفرداً من خارج المجلس المركزي، نتيجة انتهاء ولاية نوابه الاربعة في 10 حزيران الماضي، استنادا إلى تسيير المرفق العام وما كرسه قبله الحاكم الوحيد بعد الحرب رياض سلامة؟ وإن كان الامر كذلك ما هي الحاجة لأربعة نواب يتقاضون مخصصات باهظة؟!

- هل سيتم مقاضاة مصرف لبنان في حال فوز أحد المودعين بدعوى للحصول على أمواله، كون المركزي هو من يمنع المصارف بتسديد الاموال؟ ولاسيما إن كانت الدعوى مرفوعة في الخارج!

- هل تدابير المركزي الاخيرة برفع سقف السحوبات، ووضع ضوابط على الرأسمال تلغي الحاجة إلى خطة اقتصادي شاملة؟ مع العلم ان من شأن الخطة تنظيم وضع القطع، وتنظيم العلاقة مع المصارف لجهة فتح الحسابات، وتحديد السحوبات بعدالة، وضمان حق التقاضي وتقديم الشكاوى لجهات مخولة حل المشاكل.

اسئلة كثيرة تقودنا إلى استنتاج واحد، هو استمرار سياسة " ركل التنكة إلى الأمام" أو يعني تأجيل التعامل مع المشكلة، على أمل أن تُحلّ من تلقاء نفسها أو أن يتعامل معها شخص آخر لاحقاً.