تكاد كرنفالات "الانتصار التاريخي" في الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت الرعاية الأميركية تشكّل "وحدة الساحات" الفعلية والوحيدة العابرة لحدود الأعداء والأذرع على السواء، في مشهدية مثيرة للجِد والهزل في آن.

فالطرفان المتحاربان يعلنان بلا تردد انتصارهما الأكيد في حرب المسافات، الأول إسرائيل بإعلانها تدمير المواقع النووية مع الإسناد الأميركي ثم إضعاف الطاقة الصاروخية الإيرانية، والثاني إيران بإيلامها الدولة العبرية بصواريخ الدمار الشامل ومطيّراتها وبصمود النظام والشعب معاً.

لكنّ احتفالات "الانتصار" التي تمدّدت من طهران إلى الضاحية الجنوبية لبيروت وبعلبك مع شعاراتها المشابهة لما بعد وقف إطلاق النار في لبنان، لا بدّ من أن تخبو مع انطلاق الحسابات الحقيقية الهادئة لحصائل هذه الحرب وترجماتها الميدانية والاقتصادية وأثمانها السياسية. فلا شيء يؤكّد عدم انسحاب الوضع الكارثي اللبناني على الحالة الإيرانية بعد مقارنة حساب البيدر بحساب الحقل.

وإذا تركنا ميزان خسائر إسرائيل وأرباحها إلى تقدير المرحلة القريبة الطالعة، وهو ميزان دولي أميركي وأوروبي، وكذلك إسرائيلي داخلي في الوقت نفسه، وحاولنا استقراء وضع إيران بعد الحرب (المنتهية أو المعلّقة، مَن يدري؟)، يمكننا الخروج بالاستنتاجات الآتية:

1 - لا شك في أن النظام الإيراني كان الأشد حاجة إلى وقف الحرب بعد فقدانه قيادات وعلماء ومواقع، واستباحة سمائه من الطيران الحربي الإسرائيلي وأرضه من شبكات "الموساد". وخصوصاً بعد الغارات الأميركية النوعية على منشآته النووية.

أمّا قوله إن واشنطن وتل أبيب "توسّلتا" وقف الحرب، فرسَم ابتسامة عريضة على وجهَيهما ووجوه المراقبين، رغم الأذى الكبير الذي ألحقته صواريخه ومطيّراته بإسرائيل.

2 - إن إيران جديدة بدأت تظهر خلال الحرب وبعدها، ليس بالضرورة من خلال تغيير نظامها (الذي لم يكن فعلاً هدفاً أميركياً وإسرائيلياً أوّل)، بل من خلال أداء أو سلوك مختلف عن النهج التاريخي لـ "الجمهورية الإسلامية" بقيادة المرشدَين الخميني والخامنئي، مع سقوط خطاب "إزالة إسرائيل من الوجود" ومحاربة "الاستكبار العالمي بقيادة الشيطان الأكبر أميركا".

3 - نشوء صيغة جديدة من التعاون والعمل المشترك مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً بعد زوال الحاجز الأشد خطورة وهو البرنامج النووي الإيراني، سواء تمّ تدميره كلّياً أو جزئياً، أو تأخيره وتجميده لسنوات. وقد باتت واشنطن الآن في موقع العدو الحميم أو الصديق اللدود الذي لا غنى لإيران عن دوره وحضوره ورعايته، خصوصاً أنه يملك مفتاح العقوبات وأوكسيجين التنفًس المالي والاقتصادي.

4 - الواضح أن إيران باتت محكومة بانتهاج السياسة الانفتاحية التي سبقتها إليها جاراتها دول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً الثلاثي المتقدّم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، ولا مناص أمامها سوى الاقتداء بنهج هذه الدول في الانفتاح العالمي الحضاري على الازدهار والاستقرار والسلام، لئلّا تحكم على نفسها بالعودة إلى العزلة والعقوبات والحرب.

5- خلافاً لما يسعى النظام الإيراني إلى ترويجه عن التفاف كل الشعب حوله، فإن حالات التململ والشكوى والرفض بدأت تظهر، وسيعاني من الانتفاضات وتطوّر المعارضة بعد انقشاع هول الخسائر، وسيحاول احتواءها أو قمعها، لكن اضطراره لملاءمة وضعه مع واشنطن وسائر الدول المؤثرة سيجعله أكثر ليونة كوسيلة لحماية نفسه من الانهيار، لأن تغييره من الداخل يصبح أكثر قابلية للتحقق.

6 - لا فصل بين الثلاثي الإيراني، النووي والباليستي والأذرعي، في شروط انتساب إيران إلى النهج الحضاري الغربي والعربي. فالسلاح النووي تم إقفاله بالشمع الأحمر، والصواريخ البالستية الباقية تخضع لمراقبة شديدة على غرار سائر الدول المتوسّطة مثل باكستان وتركيا، أمّا الأذرع الثلاث وما تبقّى منها في لبنان والعراق واليمن فهي قيد المعالجة أو التصفية كشرط من شروط اندماج إيران في السياق الجديد، وستكون معالجة سلاح "حزب الله" في الأسابيع المقبلة نموذجاً للأذرع الأخرى.

7 - يبقى أن تحاول إيران، تحت ستار وقف الحرب، إعادة إحياء هذه الثلاثية، بسبب صعوبة تغيير جلدها في العقيدة واستحالة تغيير ذهنية "الحق الإلهي" والإيمان بعودة "صاحب الزمان"، لكن محاولتها هذه ستكون محكومة بخطر استئناف الحرب، مع قدراتها المتراجعة وحلفائها الأضعف.

ألم تقرأ، بمجهرها المكبّر، في كتاب وكيلها اللبناني وتجربته المؤلمة على مدى سبعة أشهر؟

إن حرب الـ 12 يوماً كانت كافية كي يكون ما بعدها مختلفاً عمّا قبلها، في شقّ الطريق المتعرّجة نحو إيران الجديدة.