يُروى عن رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، إبَّان الأيام الأولى لاجتياح لبنان الذي قامت به حكومته عام 1982، قوله: "شعب ينكِّت وهو في قلب المأساة، لا يمكن أن نهزمَه".
منبع القول طرفة أطلقها الفنان الياس رحباني، في الأسبوع الأول للاجتياح عامذاك، بعدما بلغت القوات الإسرائيلية مشارف خلدة، واقتربت من العاصمة بيروت. تصوَّر الرحباني الثالث أن جنوداً إسرائيليين دخلوا معملًا للألبسة الدَّاخلية، ومن ضمن ما وقعت أيديهم عليه، حمَّالات صدر نسائية، فراح كل منهم يقصّ الحمالة نصفين، فيضع أحدَهما على رأسه، والثاني بين حوائجه، على أنَّه قلنسوة (كيباه).
وحين بلغت هذه الطُّرفة مسامع بيغن، أدلى برأيه الذي أثبتته الأيام لاحقاً.
وما أكثر الطرائف التي يطلقها اللبنانيون، وهم في قلب المآسي، سواء في الداخل أو في المحيط، خصوصاً مذ أصبح لكل منهم منصَّته على العالم الافتراضي. وخير دليل الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الدائرة رحاها منذ نحو عشرة أيام.
وإذ تحولت الشرفات والأسطح والساحات والمصاطب جلسات لمشاهدة "الألعاب النارية" تضيء سماء لبنان، مع ما تحمله من مخاطر في حال سقط صاروخ خطأ على أرضه، راح اللبناني يصوّر ويرسل ما صوَّر تعميماً للفائدة، أو يخترع طرفة يسوقها، فتسري بين الناس كالنار في الهشيم. أما سمعتم بالمطعم الذي ارتفع سعرُ فاتورته، لأنك منه تستطيع مشاهدة "حرب النجوم" في "قطعة السما"، الوصف الذي أضفاه الشاعر الراحل يونس الإبن على لبنان؟ وهل من لزوم لنذكر بمن كان يتجمع من اللبنانيين على بعد أمتار من أماكن كانت إسرائيل تحدّدها وتحذّر من أنها ستقصفها، كأنِّي بهم يهزأون بإسرائيل وبالحياة... لو عاش بيغن إلى اليوم ليشاهد، ليس إلَّا.
وإذا كان ما تقدم مضحكاً مبكياً، من ضمن مأساتنا المستمرة، مذ كان لبنان، فإن ما يزيد الطين بلة ومآسي، وسائل إعلامنا التي تشرّع هواءها، لما تسميه "تغطية مباشرة" للحدث.
مهما يعلُ شأنها، تبقَ قاصرة عن مجاراة أي فضائية عربية أو أجنبية، قدراتٍ وإمكاناتٍ وخبراتٍ وسعةَ انتشار ومصادرَ معلوماتٍ وأخبارٍ، وتظل عيون المشاهدين منجذبة إلى تلك الخارجية لا إلى حواضر بيتنا اللبناني.
وخذ يا أيها اللبناني المحاصَر بالحروب (هنا وهناك وهنالك) والمسيَّس من رأسك إلى أخمص قدميك (وإن كنت لا تفقه شيئاً في السياسة وعلم السياسة)، و"العايف التكنة"، على ما تقول العبارة اللبنانية... خذ على ضيوف يحلُّون على شاشاتنا، ليحلِّلوا ويقوِّموا الحرب الإسرائيلية الإيرانية ويتوقَّعوا ويستشرفوا. ضيوف هم أنفسهم أطلُّوا سابقاً ليحيطونا علماً بثقافتهم الحربية والوطنية إبان "حرب الإسناد". وهم أنفسهم شيَّعوا نظام الأسد في سوريا، وهلَّلوا للجولاني. وهم أنفسهم أدلوا بنظريات رائدة في البيئة ومعالجة النُّفَيات والمحارق وإنشاء السدود وبناء معامل الكهرباء. وهم أنفسهم أسدوا نصائح لمعالجة المصابين بالكورونا. وهم أنفسهم فقهاء في الدستور والقانون والأنظمة. وهم أنفسهم أوحوا ويوحون أنهم موجودون طرفاً فاعلًا ومؤثراً حيث يعقد اجتماع يضم قادة الدول الكبار، ثنائيّاً أو جماعيًّا... فيخرجون من الاجتماع ويعمّمون مضمونه على عامّة الناس... وهم وهم إلخ.
نصيحة لوسائل إعلامنا الموقَّرة، رأفة بأعصابنا، واحتراماً لعقولنا، ومداراة لمشاعرنا، ورحمة بسنيِّنا التي راكمت التعب و"القرف" ولم تعد تقوى على التحمل"، وخدمة لجيل شاب نودّ ألا نورثه أمراضنا في الثرثرة والادعاء والتفشيخ والكذب والرياء والممالأة و"بيي أقوى من بيَّك"... نصيحة بمنزلة اقتراح للتطبيق، في انتظار أن ينقشع غبار الحرب، ويحلّ السلام، يقوم على ما يأتي:
تابعي يا محطاتنا الكريمة برامجك كالمعتاد، ولا تشغلي نفسك بالتغطية المباشرة. وخصّصي موجزاً على رأس الساعة، ما دام هواؤك مفتوحاً، لتوافي مشاهديك الكرام، كما تخاطبينهم، بكل جديد... أو اقطعي البث لخبر عاجل دسم.
خصِّصي برنامجاً حواريّاً واحداً في اليوم، للتحليل والمناقشة والمتابعة، شرط أن يكون الضيف من أهل الاختصاص، فيفعل الغربال ساعتذاك فعله، ويخفّ ظهور العاطلين من العمل أصحاب الظهور، مدعي المعرفة في كل شيء. ويا ليت توقيت عرض البرنامج يكون منتصف الليل، بعد يوم طويل يكتمل فيه المشهد للضيف والمضيف.
قلِّلي عدد الضيوف في الحلقة الواحدة، لأن الأذن لا تستوعب إلا صوتاً واحداً. أمَّا القدرة على استيعاب ثلاثة أصوات أو أربعة معاً، فليست إلَّا ميزة لدى من أمضى عمره في "سوق الفشخة" حيث كلٌّ ينادي على بضاعته، بصوت واحد، معاً.
... وقديماً قيل: تبقى النصيحة بجمل.