أخطر نتيجة للحروب الدولية على اقتصادات بلدان "القرية الكونية"، هو اللايقين. فالحرب التي نعرف متى وكيف تبدأ، نجهل المسار الذي قد تتخذه وكيف تنتهي. القُصور المعرفي بمآلات الحروب ومفاجآتها الذي يصل حد "السذاجة"، يرخي بثقله على سلوك المستهلكين واتجاهات أسواق السلع والخدمات.

ردة الفعل الاولى عند اندلاع صراع بين دولتين أو أكثر، متحاذية أو متباعدة، على غرار الحرب الاسرائيلية الايرانية الحالية، عادة ما تأخذ ثلاثة أشكال كلاسيكية:

- الأول، التحوّط بالسلع الاستراتيجية والعملات القوية كالنفط والحبوب وبعض المواد الغذائية وأدوات النظافة الشخصية والذهب والدولار، خوفاً من تعطّل سلاسل التوريد من جهة، وتدنّي قيمة العملات والأسهم من جهة ثانية.

- الثاني، ارتفاع كلفة النقل، نتيجة ارتفاع أسعار النفط والتأمين على الشحنات، وإحجام العديد من شركات النقل البحرية والجوية على المرور في مناطق النزاع. هذا ما يرفع أسعار السلع ويؤثر في المعروض.

- الثالث، تقليص النفقات على كل ما هو غير ضروري، ولا سيّما في البلدان المتحاربة والمجاورة لها، التي قد تتأثر مباشرة بالصراع.

العين على النفط

التداعيات الثلاثة هذه، حلّت "حفراً وتنزيلا" على اقتصادات دول العالم عموماً، ودول الشرق الاوسط خصوصاً، جرّاء اندلاع الحرب الاسرائيلية الايرانية. فلم تكد تلامس الهجمات الاسرائيلية المقارّ الحكومية الإيرانية صباح الجمعة، حتى حلّقت أسعار النفط العالمية قرب أعلى مستوياتها منذ أشهر، عند حدود 75 دولارا للبرميل، مرتفعة بنسبة 14 في المئة. وعاد الذهب بوصفه أكثر الملاذات أماناً للارتفاع محققاً 4400 دولار للأونصة. وشهدت عقود السلع الآجلة ارتفاعات تدرجت صعوداً من 5 إلى 15 في المئة بالحد الأدنى. ومما زاد المخاوفَ التهديداتُ المتواصلة بإمكانية إقفال إيران مضيق هُرمز، "الشريان الأبهر" لنقل النفط. ورغم كل التحليلات المطمئنة من استحالة "إطلاق" إيران "النار على قدمها" وقطع الممر الذي تصدّر منه مليوني برميل نفط يومياً، بعوائد سنوية تصل إلى أكثر من 25 مليار دولار، وتستقبل منه أغلبية سلعها وحاجاتها، فإن القلق ظل مسيطراً على أسواق النفط العالمية، فانعكس ارتفاعاً إضافياً بنسبة 5% في أسعار النفط في افتتاحية تعاملات الأسبوع الطالع.

تداعيات الحرب على لبنان

فيما تمر الصواريخ البالستية والفرط صوتية الايرانية، والمقاتلات الاسرائيلية فوق رؤوس الجبال اللبنانية، لم يظهر أن الأسواق تأثرت بشكل عنيف بالتطورات العسكرية. رب قائل إن "الغريق بالانهيار الاقتصادي، وانفجار المرفأ، والعدوان الإسرائيلي على مدى عامين، لم يعد يخشى بلل الحرب الاسرائيلية الايرانية". وفي هذا التحليل العاطفي جزء من الصحة. فلم نشهد تهافتاً على شراء المواد الغذائية، وظل سعر الصرف المدعوم بغطاء من السياسة المالية مستقراً، ولم تخفت زحمة السير وتتراجع حرك ارتياد المسابح والمطاعم والملاهي الليلية. ولولا إقفال الأجواء وتعطّل حركة المطار لساعات بالتزامن مع اشتداد وتيرة إطلاق الصواريخ التي تضيء سماء لبنان، لما شعر اللبنانيون بأي أزمة.

تداعيات الحرب ستنعكس على لبنان حتما في الأجلَين القريب والبعيد. فهناك مجموعة من النتائج القصيرة إلى المتوسطة المدى للحرب، على الاقتصاد. النتيجة الأولى ستكون على السياحة، بحسب نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان نبيل فهد، إذ إن "إطالة أمد الحرب، يعني إحجام السياح والمغتربين عن القدوم إلى لبنان. ويفوت بالتالي فرصة تحقيق مردود مالي من الإنفاق السياحي والاستهلاكي، كان من المتوقع أن يكون كبيراً".

النتيجة الثانية، ستكون على الفاتورة النفطية، سواء تلك التي سيتحملها المواطنون بشكل خاص ومباشر نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالمية وزيادة العجز في الميزان التجاري، أو "غير المباشرة جرّاء ارتفاع أسعار السلع والمواد الاستهلاكية العالمية"، بحسب فهد. "ومن المعروف أن استهلاك لبنان من النفط كبيرا جدا من أجل تأمين الكهرباء من المولّدات الخاصة التي تعمل على المازوت"، والمواصلات في ظل اعتماد اللبنانيين الكبير على السيارات الخاصة الأكثر استهلاكاً نظراً لغياب النقل العام المنظم واللائق.

وستؤثر الحرب في الاستقرار الاقتصادي برأي فهد، فان "طالت الحرب من دون أن يكون هناك نتيجة حاسمة لأي من الفريقين، فان الاستقرار في المنطقة سيكون مهدَّداً". وهو سينعكس سلبا على مختلف مفاصل الحياة الاقتصادية، والقدرة على تنفيذ الاصلاحات والانطلاق في ورشة الإعمار واستعادة النمو الاقتصادي.

الحلول الواجب اتخاذها

هَول الحرب بين قوتين كبيرتين يُظهر لبنان معدومَ الحيلة والقدرة على اتخاذ إجراءات احترازية، وإن كان مثل هذا الرأي يصح على الوضع الجيوسياسي العام، فإنه يبدو محدوداً من الناحية الاقتصادية. فتحصين الجبهة الاقتصادية الداخلية بالإصلاحات التي طال انتظارها مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولا سيما في ظل توقع تعقيد شروط الإقراض العالمية. فتحسين تصنيف لبنان الائتماني لو انطلق بإعادة جدولة ديونه الخارجية، وحل أزمة الديون الداخلية سيسرّعان إمكانية تلقّي لبنان مساعدة وأموالاً وتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي.

من الجهة الثانية فإن ارتفاع كلفة الاستيراد نتيجة مخاطر مرور السفن بالبحر الأحمر، ومنه عبر قناة السويس إلى شاطئ المتوسط، واضطرار الكثير من سفن الشحن القادمة من آسيا إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، مع ارتفاع كلفة طول الطريق وزيادة أسعار البضائع يتطلب من الحكومة اللبنانية توسيع التعاون مع الدول المجاورة، وإعادة تطبيع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع سوريا على قاعدة الندّية.

الحرب كبيرة وتداعياتها الكاملة في حالة من الضبابية وعدم اليقين. ومع هذا فإن الحاجة إلى الإصلاح الداخلي كبيرة بدورها. وتتطلب معالجة جدية وسريعة قبل فوات الأوان، لئلا "يضرس" لبنان فيما تأكل اسرائيل وإيران "حصرم" الحرب.