هي حرب كاملة الأوصاف، بل حربُ وجود، تلك الدائرة هذه الأيام بين ايران واسرائيل. كانت منتظَرة منذ سنوات وخططت لها الدولة العبرية منذ انتصار الثورة الايرانية واطاحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979. رفع الثوار آنذاك العلم الفلسطيني مكان العلم الإسرائيلي على سارية مبنى السفارة الاسرائيلية في طهران وحوّلوها إلى أول سفارة لدولة فلسطين منذ نشوء الكيان الإسرائيلي عام 1947.

لم تكن الضربة الإسرائيلية الأولى في هذه الحرب مفاجئة للقيادة الإيرانية التي كانت تحسب لها في ضوء تصاعد لهجة التهديد والوعيد الأميركي ـ الإسرائيلي منذ أسابيع. وإنما جاءت خاطفة اعتمدت فيها إسرائيل أعمالا أمنية شكلت مقدّمة للهجمات الجوية وكررت تجربتها الأخيرة في لبنان، كتصفية القيادات العسكرية والأمنية العليا اعتقاداً منها أن ذلك سيؤدي إلى انهيار منظومة القيادة قبل إسقاط الجيش الإيراني وإطاحة النظام.

لكن إيران استوعبت الضربة الاولى بعد ساعات من حصولها وانتقلت من الدفاع إلى الهجوم وفاجأ ردّها الصاروخي من حيث الوتيرة والكم والحجم الإسرائيليين. وظهرت مشاهد الدمار الكبير في تل أبيب وغيرها، لأنّ ذلك لم يكن مجرّد رد على هجوم كما في المرتين السابقتين.

هذه الحرب كلما طال أمدها، قد تلعب ضدّ مصلحة إسرائيل. فإيران جغرافياً أكبر من إسرائيل 76 مرة، فيما تشكو إسرائيل من تمركز كبير في المدن وخصوصاً في منطقة "غوش دان" التي تضم تل أبيب وضواحيها ويقطنها أربعة ملايين نسمة على الأقل. كما تتركز في هذه المنطقة كل مقوّمات الدولة العبرية ما يجعل من السهل استهدافها بحرب استنزاف تصبّ في مصلحة إيران. وما الضربات التي تتعرض لها إسرائيل حتى الآن سوى موجة من سلسلة موجات متتابعة وفق برنامج عملياتي حربي أعدته القيادة الإيرانية. وفي المحصلة فإن كل الكيان الإسرائيلي هو تحت النار وستتصاعد الهجمات الإيرانية عليه تباعاً على ما يبدو.

ويعتقد الإيرانيون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخطأ حين هاجم إيران، فوفّر لها الفرصة لتصفية حساباتها مع إسرائيل بعد كل ما جرى في لبنان وغزة واليمن وما أصاب أطراف "محور المقاومة" وحلفائه منذ عملية "طوفان الأقصى".

تبادُل الغارات أظهر أن القرار بالحرب ليس قراراً إسرائيليا لأن نتنياهو كان يؤكّد دوماً "أننا قادرون على استهداف رأس المحور الإيراني بعدما تخلصنا من حلفائه، وقادرون أيضاً على تحويل تهديد إيران إلى فرصة حرب". لكن تبيّن للإيرانيين، كما يعلنون، أن ادارة الرئيس دونالد ترامب "شريكة أساسية لإسرائيل في الحرب التي لم تكن لتحصل من دون غطاء أميركي مباشر لها بدليل كلام ومواقف الرئيس الأميركي في هذا الاتجاه".

المسؤولون الإيرانيون مقتنعون بأن ترامب يرعى الهجوم الإسرائيلي عليهم لأنه يستفيد منه في حالتَي نجاحه أو فشله. فإن نجح يكون عملياً قد استخدم نتنياهو "ازعر الحي" في إطار مسعاه لتطويع إيران في المفاوضات حول ملفها النووي. وفي حال الفشل تكون واشنطن قد أبعدت مسؤوليتها عن الحرب وألقتها على نتنياهو لقيامه بـ "الأعمال الوسخة". عندها تتقدم واشنطن لتقول لإيران إنها جاهزة للتفاوض ولكن على أسس جديدة وبشروط أقسى من شروط ورقة المبعوث الاميركي المفاوض ستيف ويتكوف التي أعدت إيران لها ردّاً كانت ستسلّمه له في الجولة السادسة التي لم تنعقد بسبب اندلاع الحرب.

ولذلك يعتقد الإيرانيون أن ورقة الموفد الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف لم تعد موجودة، وأن شروطاً اميركية أكثر تطرفاً وقسوةً وتشدداً ستحلّ محلّها، كانت سبباً في الذهاب الى الحرب ليحصل في ضوئها تفاوض تحت النار لإجبار الإيرانيين على القبول بها مقابل وقف الحرب عليهم.

وتدلّ الرسالة التي وجهها نتنياهو إلى الشعب الإيراني حين بدأت الحرب إلى أن هناك توجهاً إلى إسقاط النظام. ولو قُدِّر للهجوم الاسرائيلي أن ينجح في ضرباته الأولى، لكان أسقط رأس النظام وليس البرنامج النووي. ولكن الاسرائيليين لم يدركوا حقيقةَ أن الشعب الإيراني يتّحد فوراً عند بروز أي خطر خارجي تتعرض له البلاد. وهذا ما يحصل الآن في مواجهة الهجوم الإسرائيلي فيما حظيت أيران بتضامن إقليمي ودولي من الصين الى باكستان وروسيا والدول العربية وتركيا وغيرها. شعرت هذه الدول بخطورة التغول الاسرائيلي وبأن سقوط النظام الإيراني سيؤدي الى بسط سيطرة اسرائيل على المنطقة بحيث تنتفي حظوظ إنشاء دولة فلسطينية.

ويعتبر الإيرانيون أن المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة قد باتت جوفاء لا مضمون لها بفعل الدعم الأميركي لإسرائيل في حربها على إيران. ومع استهداف عدد من المفاعلات النووية لا داعي للتفاوض بعد الآن، خصوصاً بعدما فقدت إيران ثقتها بها وبالوصول إلى اتفاق على الملف النووي. وقد بدأت إيران تراجع تعاونَها مع الغرب في هذا الملف.

لذلك من المبكر الآن الحديث عن وقف الحرب. لدى اسرائيل كثير من الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها وأوّلها تدمير الدفاع الجوي الإيراني لتصبح الأجواء الإيرانية مفتوحة أمام طيرانها الحربي وسلاحها الصاروخي لتبدأ بعدها الاستهدافات الأساسية الكبيرة للمرافق النووية والصاروخية الإستراتيجية الإيرانية التي تعتبرها خطراً وجودياً عليها.

وفي المقابل فإن إيران لن تقبل بوقف الحرب لأن لديها رغبة شديدة في الانتقام من إسرائيل وتدفيعها ثمن العدوان عليها عبر استهداف كل الأماكن الحيوية والحساسة في الكيان الإسرائيلي وأقل ثمن بالنسبة إليها هو إنهاء وجود حكومة نتنياهو.

أما لبنان الذي تعبر الصواريخ والمطيَّرات الايرانية اجواءه في طريقها لقصف أهداف في إسرائيل فإن "حزب الله" حليف إيران وأحد ابرز اركان محورها لن يتدخل في هذه الحرب لاعتبارات داخلية وخارجية، الى جانب الضغوط الأميركية والغربية على السلطة اللبنانية لنزع سلاحه وحصر كل السلاح بيد الدولة. ولكن "الحزب" سيتدخل في الحرب إذا شعر بأن النظام الإيراني بات مهدداً وجودياً.