بدأت الأزمة يوم الجمعة قبل أسبوعين، في الثامن من حزيران حين شنت سلطات إنفاذ الهجرة والجمارك غارات مسلّحة في جميع أنحاء مدينة لوس أنجلس واعتقلت أكثر من 40 شخصاً، من بينهم قاصران وخمسة من أصحاب السوابق. هذه العمليات التي نُفِّذت بدون إخطار السلطات المحلية، انتهكت وضع مدينة لوس أنجلس المدينة كملاذ آمن وفق قانون قِيَم كاليفورنيا (SB 54).
في التاسع من الشهر، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء المدينة. بدأت سلمية ولكنها تصاعدت بعدما أمر الرئيس ترامب بنشر ألفَي جندي من حرس كاليفورنيا الوطني من دون موافقة حاكم الولاية غافن نيوسوم. ثمّ انفجر الوضع في الحادي عشر من الشهر عندما أغلق المتظاهرون الطريق السريع 101، وأضرموا النار في سيارات وايمو الذاتية القيادة، واشتبكوا مع الشرطة التي استخدمت الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. وفي اليوم الثالث، أمر ترامب بنشر ألفَي جندي إضافي من الحرس الوطني وحشد 700 من جنود مشاة البحرية من قاعدة لتدريب مشاة البحرية تقع على مدخل صحراء موهافي لنشرهم إذا اقتضت الحاجة.
لم يمضِ أسبوع حتى غابت أخبار الاحتجاجات عن صدارة الأخبار اليومية لأن وسائل الإعلام الأميركية والدولية وجّعت اهتمامها نحو حرب الطائرات والصواريخ المندلعة بين إسرائيل وإيران. لكنّ الغارات استمرت وتوسّعت الاعتقالات لتشمل المهاجرين المقصودين بالغارات والمحتجّين، ومن بينهم أعضاء من الحزب الديمقراطي أعضاء في مجالس النواب والشيوخ المحلية.
يرى الديمقراطيون وعدد وافر من الخبراء الدستوريين الأميركيين أن أوامر الرئيس ترامب تجاوزت العديد من المبادئ الدستورية التي لم تكن موضع تساؤل حتى الآن.
نشر الحرس الوطني: وضع اليد على حقوق الولايات؟
برر ترامب تعبئة الحرس الوطني بالقانون الفدرالي الرقم (USC 10) الذي يسمح بنشر القوات الفدرالية في حالات "الغزو" أو "التمرد" أو "عدم القدرة" على تنفيذ القوانين الفدرالية. ردّت ولاية كاليفورنيا بتقديم دعوى قضائية ضد ترامب وإدارته، أكدت فيها أنّ أياً من هذه الشروط التي يتحدّث عنها القانون ليس متوافراً.
أكد نيوسوم ومدّعي عام الولاية روب بونتا أنّ لوس أنجلس لم تواجه غزواً أو تمرُّداً، وأنّ الاحتجاجات كانت غير عنيفة إلى حد كبير قبل التدخل الفدرالي، وأن شرطة المدينة تمكّنت من التعامل مع الاضطرابات.
وشددت الدعوى أيضا على أن القانون الذي استخدمه ترامب ينص صراحة على أن نشر الحرس الوطني يجب أن يقترن "بموافقة حكّام الولايات"، وهو ما تجاهله ترامب. يمثّل هذا الأمر أول حالة من طرف واحد لاستخدام الحرس الوطني كقوة فدرالية منذ عام 1965، حين أرسل الرئيس ليندن جونسون قوات لحماية المشاركين في مسيرة الدفاع عن الحقوق المدنية في ولاية ألاباما.
ويقول خبراء أميركيون في القانون الدستوري إن قرار ترامب تكليف قوات فدرالية القيام بمهمات الشرطة المحلية يخالف روح قانون لحماية حقوق الولايات واستقلاليتها وقّعه الرئيس رذرفورد ب. هايز في عام ، في 1878 وهو قانون يحدّ من سلطة الحكومة الفدرالية في استخدام القوات العسكرية الاتحادية لفرض سياسات الحكومة الفدرالية الداخلية على الولايات.
نشر مشاة البحرية: اختبار قانون التمرد
يثير تحريك 700 من مشاة البحرية لمهمّات مساندة الشرطة مخاوف أكثر خطورة. ففيما تدعّي القيادة الشمالية أن قوات مشاة البحرية "ستحمي الممتلكات الفدرالية" باستخدام تكتيكات "خفض التصعيد"، فإن نشرها يفتقر إلى مرجعية قانونية واضحة.
وقد نفى معاونو الرئيس ترامب صراحة أنهم لجأوا إلى "قانون التمرد"، الذي يربط استخدامه بوجود "عرقلة غير قانونية" للسلطة الفدرالية. حتى أن ترامب نفسه قال: "لن أسمّي ما يجري تمرداً".
يحظر على مشاة البحرية إنفاذ القانون المحلي بموجب القانون U.S.C. 18 ، ولكن توجد استثناءات لـ "حماية الممتلكات الفدرالية". معارضو هذا التوجه، يشملون جميع السياسيين الديمقراطيين وغيرهم. تحدّت باسمهم السيناتور الديمقراطي جاك ريد من ولاية رود آيلاند حين وصف هذا المشروع بأنه "تسييس للقوات المسلحة العسكرية لاستخدامها ضد خصوم الرئيس".
اختبار حدود صلاحيات الرئاسة
تعكس تصرفات ترامب استراتيجية متعمدة لتوسيع صلاحيات الرئاسة من خلال مركزية السيطرة. بإصدار الأوامر التنفيذية نجح ترامب في تهميش الكونغرس والضغط على المحاكم وتجاوز سيادة الولايات. تنبع هذه التحركات من اعتقاده بأن المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن "السلطة التنفيذية يجب أن تكون منوطة برئيس للولايات المتحدة الأميركية"، تسمح له "بفعل ما أريد كرئيس"، كما قال في مقابلة مع ABC News في عام 2019. منذ أول هذا العام، أصدر ترامب 129 أمراً تنفيذياً، وهذا رقم قياسي، مع أن الحكم لا يتم بالأوامر التنفيذية فقط لأن الدستور قسم السلطة بين ثلاثة فروع: تنفيذي وتشريعي وقضائي وأعطى كلا منها صلاحيات تخوّلها مراقبة ومحاسبة السلطتين الأخريين.
مع تصرفات ترامب يتعرض مفهوم الفدرالية لهجوم لا سابق له. الاستيلاء على قرار نشر الحرس الوطني لكاليفورنيا بدون موافقة حاكمها يحرمها من موارد حيويّة تحتاجها في حالات الطوارئ مثل حرائق الغابات. أما مشاة البحرية فقد يؤدي نشرهم إلى تدخلهم في شؤون الشرطة المحلية. وقد حذّر الباحث القانوني المحافظ يوفال ليفين من أنّ "ضعف الكونغرس ... هو أعمق تحدٍّ يواجه نظامنا الدستوري".
السوابق التاريخية
المثال الحديث الوحيد لاستخدام النص القانوني المشار إليه آنفاً كان نشر الرئيس ريتشارد نيكسون للحرس الوطني عام 1970 لتوزيع البريد بعد إضراب موظفي مكتب البريد، وهو أقل حساسية بكثير سياسياً من إنفاذ قوانين الهجرة.
ونشر الرئيس جورج بوش الأب في بداية التسعينيات الحرس الوطني في كاليفورنيا لقمع أعمال الشغب في أعقاب الاعتقال الوحشي لأميركي من أصول أفريقية، لكن نشر القوات كان بناء على طلب الحاكم.
التداعيات السياسية والمسارات القانونية
تسعى دعوى حاكم كاليفورنيا إلى استصدار أمر قضائي لوقف مفعول قرار نشر القوات الفدرالية بحجة أنه ينتهك حماية حقوق الولايات وسيادتها كما هو وارد في التعديل العاشر للدستور. وتعبيراً عن مقاومة الولايات لافتئات السلطة الفدرالية على حقوقها، أيّد حكّام الولايات الديمقراطيون الثلاثة والعشرون جميعاً موقف نيوسوم ، واصفين خطوة ترامب بأنها "إساءة استخدام مقلقة للسلطة".
في المقابل زعمت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم أن المتظاهرين "مجرمون" وتعهدت بمضاعفة غارات إدارة الهجرة والجمارك. أما وزارة الدفاع فأكّدت أن نشر قوات المارينز سيُستخدَم فقط لحماية المباني والممتلكات الفدرالية حسب الضرورة.
تلخص مناورة ترامب في لوس أنجلس سعيه في ولايته الثانية لإعادة صوغ صلاحيات الرئاسة. وحين نشر القوات الفدرالية في كاليفورنيا ضد إرادة حاكمها، أراد أن يختبر ما إذا كان مبدأ "الأمن المزدوج" لاستقلالية قرار الولايات الذي كان وراءه أحد الآباء المؤسسين، جيمس ماديسون، ومبدأ الفصل بين السلطات يمكن أن يصمد أمام الولاء الحزبي الأعمى السائد الآن.
مع دخول الدعوى في كاليفورنيا مسارها القضائي، على المحاكم أن تقرر ما إذا كانت "الفوضى المصطنعة" تبرّر استخدام القوة العسكرية. والحكم الذي سيصدر يمكن أن يحدّ من التجاوز الرئاسي أو أن يعزّز حقبة من الإجراءات التنفيذية من جانب واحد.
هكذا، أصبحت شوارع لوس أنجلوس ساحة معركة ليس فقط حول الهجرة ، ولكن حول النظام الدستوري نفسه.