بدا من القصف الاسرائيلي الأعنف للضاحية الجنوبية لبيروت منذ وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني الماضي، أنّ إسرائيل قرّرت الانتقال من جنوب نهر الليطاني إلى شماله عبر معادلة أعلنها وزير دفاعها يسرائيل كاتس بقوله "لن يكون هناك هدوء في بيروت ولا نظام ولا استقرار في لبنان من دون أمن لإسرائيل (...) وعلى الحكومة اللبنانية نزع سلاح الحزب ومنعه من إنتاج الطائرات المسيّرة التي تهدّد مواطني إسرائيل".
قراءة أجراها "حزب الله" لأبعاد العملية وخلفياتها انتهت إلى أن مشروع الإسرائيليين، وخلفهم الاميركيون، كان ولا يزال إنهاء وجود "الحزب" كليا خصوصا على الصعيد العسكري. ولذلك بدأوا فعلا يتصرفون على أساس أنهم "حسموا الأمر" لمصلحتهم جنوب نهر الليطاني وقرروا الانتقال إلى "الحسم" في شماله وهم يرون أن لا أجواء إقليمية ودولية تفرض عليهم التزام وقف إطلاق النار الذي لم يلتزموه أصلا.
يرى الإسرائيلون إذاً أن الأجواء الإقليمية والدولية الراهنة تخدم مصلحتهم، وهم يستفيدون في الوقت نفسه من أصوات بعض الأفرقاء السياسيين اللبنانيين التي تستعجل الدولة في نزع سلاح "حزب الله" حتى قبل الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وإعادة الأسرى، لاعتقادهم أن نزع السلاح هو المدخل لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولبقية الأزمات الداخلية.
يعتقد "حزب الله" أيضاً الاندفاع الإسرائيلي نحو لبنان مردُّه إرباكٌ داخلي يعيشه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في ضوء المطالبات بحل الكنيست، وهو ما يقصيه عن السلطة عبر انتخابات مبكرة. لذلك سارع إلى التصعيد لاقتناعه بأن استمراره في الحرب يؤمن له الحصانة اللازمة لبقائه في السلطة وتأجيل ملفه القضائي أكثر فأكثر.
سبق الغارات على الضاحية الأسبوع الفائت حركةٌ سياسية ناشطة لـ "حزب الله" شملت رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نوّاف سلام حدّد خلالها أولويات المرحلة وأقام مساحة من التفاعل الإيجابي انحسر معها التوتر الداخلي، وأرسى مجموعة قواعد ثابتة اتفق عليها مع السلطة، خصوصا الإقرار بأن المدخل الطبيعي لمعالجة موضوع السلاح وإقرار إستراتيجية الدفاع الوطني هو استكمال الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة وإطلاق الأسرى، من دون ان يعني ذلك تأجيل العمل على تنفيذ الإصلاحات والتحضير لورشة إعادة الإعمار. وكان لافتاً أن الدول الراعية لاتفاق وقف النار بدت عاجزة، إن لم تكن متغاضية، عن منع الغارات قبل حصولها، ولم يصدر عنها أي موقف يستنكرها، باستثناء موقف فرنسي يتيم. وكان الجيش اللبناني فتش الأمكنة التي استهدفها القصف قبل أن تقصف وكان يمكنه أن يصادر منها أي شيء مشكو منه، ولكن الإسرائيلي أصر على قصفها ودفع بالجيش اللبناني إلى الانسحاب منها تحت وطأة ثماني غارات تحذيرية شنتها مطيّراته على هذه الأمكنة قبل أن يقصفها طيرانه الحربي ويدمرها مع عشرات المباني المحيطة بها. يعني هذا أن تل أبيب أرادت من هذا القصف الترهيب للنيل من عزيمة اللبنانيين ومن "المقاومة" وبيئتها الحاضنة، وأن الغارات تماشت مع سلوك الولايات المتحدة الضاغط على لبنان لنزع السلاح قبل أي شيء آخر، إلى درجة أن الرئاسة الأميركية للجنة مراقبة وقف النار لم تحرّك ساكنا تجاه ما حصل. هذا الموقف الأميركي قد يكون ضبط إيقاع إسرائيل في ظل المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية لأن الإسرائيلي كان ولا يزال يفضل الخيار العسكري ضد إيران فيما واشنطن تفضل الخيار الديبلوماسي حتى الآن. وربما تكون واشنطن أرادت منع إسرائيل من التشويش على المفاوضات بإعطائها الضوء الأخضر للتصرف كيفما شاءت في ساحة لبنان وربما في سوريا أيضاً لإبعادها عن الشأن الإيراني. وهذا ما يفسر "الفيتو" الأميركي في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الأخير لوقف إطلاق النار في غزة والذي كانت واشنطن قادت المفاوضات في شأنه قبل طرحه على التصويت في مجلس الأمن.
يرى "حزب الله" إذاً أن الولايات المتحدة تغطي التحركات الإسرائيلية. فالاتصالات كانت مفتوحة لمنع الغارات على الضاحية قبل حصولها، ولو أن واشنطن تعارضها لكانت منعها خصوصا بعدما دخل الجيش اللبناني إلى الأماكن المستهدفة ولم يجد فيها صواريخ دقيقة ومطيّرات تذرّعت بها إسرائيل. "حزب الله" يعتقد أيضاً أن الأميركيين يتعاطون مع الجيش اللبناني بثقة قليلة أو على الأقل بأسلوب لا يرقى إلى مستوى ما يدّعون من حرص عليه. وعلى الرغم من أن القرار الدولي 1701 ينص على آلية للتحقق من خرق وقف الأعمال الحربية ومن ضمنها التحقق من المعلومات التي يقدمها أي طرف في هذا الصدد، تعرّضت إسرائيل للجيش اللبناني في الضاحية الجنوبية ومنعته من إكمال مهمته في تفتيش الأمكنة التي قصفها الطيران الحربي الإسرائيلي لاحقا.
وفي هذا الصدد، سرّبت الإدارة الأميركية الداعمة للسلطة اللبنانية عبر وسائل إعلام لبنانية رداً منسوباً إلى "مصادر اميركية" على موقف الرئيس عون الذي ندّد بالغارات ووجد فيها "رسائل إلى الولايات المتحدة وسياستها ومبادرتها"، بالقول أن "التحليل اللبناني غير وارد وإسرائيل لا تمرّر أصلاً رسائل إلى واشنطن عبر بيروت"، مضيفة أنّ "الإدارة الأميركية منزعجة من مواقف المسؤولين في لبنان وترى تصريحاتهم سلبية جداً". وتلا ذلك تصريح للمتحدث باسم الخارجية الأميركية قال إن "الولايات المتحدة تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها (...) من حزب الله والمنظمات الإرهابية الأخرى التي تروج للعنف وتعارض السلام. فرنسا تفرّدت بموقف مندٍّد ودعت إسرائيل إلى الانسحاب بأسرع وقت، مشدّدة على أن "فرنسا تؤكد مجددا أن آلية المراقبة بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، قائمة لمساعدة الأطراف (...) وأن تفكيك المواقع العسكرية غير المصرح بها على الأراضي اللبنانية من مسؤولية القوات المسلحة اللبنانية بشكل أساسي تدعمها قوات الأمم المتحدة".
وفي المقابل دخلت إيران على الخط لتقول بلسان الناطق باسم وزارة خارجيتها إسماعيل بقائي "أنّ العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت عشية عيد الأضحى هو عدوان صريح على وحدة أراضي لبنان وسيادته".
ويبدو "حزب الله" مرتاحا الى موقف الرؤساء الثلاثة وقيادة الجيش مما حصل في الضاحية، ولكنه يرى أن هذا الموقف ينبغي أن يقترن بحركة ديبلوماسية نشطة حتى لا يبقى لبنان في دائرة رد الفعل، وأن يطالب الدول الراعية والمجتمع الدولي بتحقيق الانسحاب الإسرائيلي الكامل.