تحوَّلَ الصراع إلى حرب استنزاف وحشية، بتكاليف بشرية واقتصادية ثقيلة تقدَّر بعشرات الآلاف من الجنود إضافة إلى الخسائر المدنية وتدمير البنية التحتية. الاقتصاد الأوكراني كاد ينهار لولا الدعم الغربي

يُقدر الناتج المحلي الإجمالي الروسي أقل مما كان عليه قبل غزو أوكرانيا بـ 10-12%، مع انخفاض الدخل المتاح للأفراد بنسبة 20-25% عما كان مفترَضاً لولا الحرب.

على الرغم من الجهود التي يبذلها غير طرف لوقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا تمهيداً لإيجاد حل سياسي لإنهاء الحرب تبدو الظروف الحالية غير ناضجة بعد. فجولة المحادثات الأخيرة في اسطنبول، والهجوم الأوكراني بالمطيَّرات على أهداف استراتيجية في العمق الروسي، ومعارج الظرف الدولي لا تسمح بالوصول حتى إلى اتفاق جدي لوقف إطلاق النار.

مفاوضات وجمود

بعد أكثر من ثلاث سنوات، استأنفت روسيا وأوكرانيا محادثات السلام المباشرة في إسطنبول في بداية الأسبوع. ومع أن المحادثات أسفرت عن اتفاق لتبادل ما لا يقل عن ألف أسير حرب من كل جانب وإعادة رفات نحو ستة آلاف جندي، لم يحرز الجانبان أيّ تقدم نحو وقف إطلاق النار أو حل القضايا السياسية الأساسية.

كشفت المحادثات انقسامات عميقة: طالبت روسيا بانسحاب أوكرانيا من المناطق الأوكرانية الأربع التي ضمتها، ووقف التعبئة والتزوّد بالأسلحة الغربية، وإنهاء حالة الطوارئ، وإجراء انتخابات، وإعلان الحياد، والتخلي عن طموحات الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، والاعتراف باللغة الروسية لغةً رسمية. رفضت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون هذه الشروط ووصف المسؤولون الأوكرانيون شروط روسيا بأنها "منفصلة عن الواقع" وأن وقف إطلاق النار يجب أن يكون غير مشروط ليتمكن الطرفان من التفاوض جدّيّاً.

الهجوم الأوكراني

عشية بدء المحادثات، شنّت أوكرانيا هجوماً جريئاً بالمطيَّرات على قاذفات روسية نووية في العمق الروسي، حتى سيبيريا. وقد خططت لهذه العملية، المسماة "شبكة العنكبوت"، لأكثر من 18 شهراً وشملت تهريب المطيَّرات عبر الحدود مخبأة في منازل جاهزة. وأكدت صور الأقمار الاصطناعية تكبُّد أسطول الطائرات الاستراتيجية الروسي خسائر كبيرة.

من المرجح أن يكون هدف هذا الهجوم إظهارَ قدرة أوكرانيا على الضرب في العمق والضغط على روسيا لتبدأ التفاوض تجنُّباً لكلفة استمرار الحرب. لكن وسائل الإعلام الروسية قالت إن الكرملين يعتقد أن أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية شاركت في التخطيط للهجوم وأن الكرملين يحقق ليعرف إذا كان الرئيس ترامب على علم مسبَق به.

حرب الاستنزاف وكلفتها البشرية والاقتصادية

تحوَّلَ الصراع إلى حرب استنزاف وحشية، بتكاليف بشرية واقتصادية ثقيلة تقدَّر بعشرات الآلاف من الجنود إضافة إلى الخسائر المدنية وتدمير البنية التحتية. الاقتصاد الأوكراني كاد ينهار لولا الدعم الغربي، في حين تواجه روسيا عقوبات وضغوطاً داخلية.

يدفع الاستنزاف الجانبين إلى السعي للسلام في نهاية المطاف، لكنه يعمّق أيضاً المواقف القصوى، إذ يأمل كل طرف أن يحسّن موقعه العسكري قبل وقف إطلاق النار أو التسوية. تعكس مطالب روسيا رغبتها في ترسيخ المكاسب الإقليمية وتأمين تنازلات جيوسياسية، فيما تصر أوكرانيا على استعادة سيادتها وعلى ضمانات أمنية.

تأثير الأطراف الخارجية

أعرب ترامب عن استعداده للمشاركة في قمة وأظهر نفاد صبره من طول الصراع، مظهراً ردود فعل متسرّعة على عدم تقدّم مساعيه. مواقفه المتقلبة وطبيعته الحادة قد تؤدي إما إلى تحقيق اختراق أو تعكير الجهود الدبلوماسية.

وتظل أوروبا داعمة بشدة لأوكرانيا، وداعية إلى استمرار العقوبات على روسيا ومحذّرة من التنازلات المبكرة. لكن هذا الدفع الأوروبي قد يتوقف بسبب وجود مسؤولين أكثر تعاطفاً مع روسيا داخل الاتحاد الأوروبي، مثل الرئيس البولندي الجديد أو رئيس وزراء المجر.

في الجانب المقابل يحافظ حلفاء روسيا، بما في ذلك الصين، على موقف أكثر غموضاً. تدعو الصين إلى الحوار لكنها تتفهّم مخاوف روسيا الأمنية، معقّدةً الجهود الغربية لعزل موسكو دبلوماسياً. وتستغل روسيا تحالفاتها لمقاومة مطالب الغرب.

آفاق وقف إطلاق النار

هي منخفضة حالياً. شروط روسيا الصارمة تجعل وقف إطلاق نار فورياً أمراً غير مرجح. ومن المتوقع استمرار المحادثات، مع اقتراح أوكرانيا مزيداً من النقاشات لاحقاً هذا الشهر. ومع ذلك، لا تزال القضايا السياسية الأساسية غير محلولة، ومذكرات الطرفين متناقضة. من المحتمل عقد قمة تشمل بوتن وزيلينسكي وربما ترامب، لكنها تتوقف على التقدم في المحادثات التمهيدية.

استمرار تبادل الأسرى يبني بعض الثقة. وقد تضغط الضربات الاستراتيجية الأوكرانية على روسيا لكنها في المقابل قد تصلّب مواقفها.

الضغوط الاقتصادية

حدّت سلسلة العقوبات الأميركية والأوروبية وعقوبات مجموعة السبع، بشدة وصول روسيا إلى السلع ذات الاستخدام المزدوج، والتقنيات المتقدمة، والمواد الصناعية الحيوية للإنتاج العسكري والاقتصادي. انخفضت عائدات النفط والغاز الروسية بنحو 80% منذ 2022، من 100 مليار يورو إلى 22 مليار يورو سنوياً، فتقلصت إيرادات الدولة تقلُّصاً حادّاً.

تواجه روسيا أيضاً تضخماً يتجاوز 10%، وأسعار فائدة تصل إلى 21%، وعجزاً متزايداً في الميزانية يموَّل بسحب مكثف من صندوق الثروة الوطني الذي فقد 65% من قيمته قبل الحرب. وفقد الروبل أكثر من نصف قيمته مقابل العملات الرئيسية، فأضعف القوة الشرائية والطلب المحلي.

يُقدر الناتج المحلي الإجمالي الروسي أقل مما كان عليه قبل غزو أوكرانيا بـ 10-12%، مع انخفاض الدخل المتاح للأفراد بنسبة 20-25% عما كان مفترَضاً لولا الحرب.

الضغوط العسكرية

تستمر حرب الاستنزاف في أوكرانيا في استهلاك الموارد. وصلت النفقات العسكرية الروسية إلى مستويات قياسية، وأجبرت الحكومة على تحويل الأموال من القطاعات المدنية إلى العسكرية وزادت المعاناة الاقتصادية. وضعفت الإنتاجية الاقتصادية بسبب نقص القوى العاملة بفعل التجنيد وهجرة العمال المهرة.

تؤدي أولوية الكرملين للإنفاق العسكري على حساب الخدمات الاجتماعية والبحث العلمي إلى تقويض أكبر للجدوى الاقتصادية على المدى الطويل.

على الرغم من العقوبات، تكيفت روسيا بالتوجّه بشكل كبير نحو الصين، وقد بلغ التبادل التجاري بين البلدين 237 مليار دولار وتزوّد الصين روسيا بأكثر من 90% من أشباه الموصلات، بما في ذلك رقائق تحمل علامات تجارية غربية، مساعدة روسيا على التهرب من العقوبات.

بالنظر إلى الاتجاهات الحالية، من المرجّح أن يتمكّن بوتن من الاستمرار في الحرب لما بين 12 و24 شهراً، ويتوقف ذلك على شدة تطبيق العقوبات، وفعالية التهرب منها، ومسار الصراع العسكري. بعد هذه الفترة، سيقيّد نفاد الاحتياطيات المالية، والضغوط التضخمية المتزايدة، وتراجع القدرة الصناعية، وعدم الرضا الاجتماعي المحتمل قدرة روسيا على دعم الحرب دون تنازلات سياسية أو عسكرية كبيرة.