عندما نتكلم عن الإعلام، نعني جميع الوسائل التي يمكن عبرها الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمعات كافة. ومع تعدد هوية هذه الوسائل من سمعية وبصرية تقليدية أو حديثة شأن الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائط الإلكترونية، فإن وظائفها لا تختلف لأنها تؤثر في الرأي العام، وإن تحوّلت من إعلام الى دعاية، يمكنها إحداث الخراب والدمار.

أما الأمن القومي، فالمقصود به أولا وآخراً الدفاع عن الدولة وحمايتها وصون مجتمعها واستقلالها وسيادتها واستمرارية حياتها السلمية. وهنا يأتي دور الإعلام في الحفاظ على مقوّمات هذا الأمن.

نضيف هنا أنّ هذا الدور قد يكون ايجابياً في حال حسن استخدامه أو سلبياً في حال تم تسليطه على نطاقات الضعف في جسد الوطن.

والموضوع هو كيف ينصر الإعلام قضية الأمن القومي وينتصر لها، أو كيف يخذلها أو يتخاذل تجاهها.

فمنذ فجر التاريخ، شكّلت السيطرة على الجغرافيا والموارد ركيزة في بناء الأمن القومي، ومع تطور المجتمعات، تحوّلت وسائل التأثير من السلاح إلى الكلمة، ومن الجيوش إلى الشاشات. أما اليوم، فلم يعد الأمن القومي محصوراً بالسلاح التقليدي، بل بات الإعلام ساحة صراع مركزيّة في معادلات النفوذ، وصار التأثير في الرأي العام لا يقلّ أهمية عن الانتصار في الميدان.

إن العلاقة بين الإعلام والأمن القومي لم تعد علاقة تقنيّة أو مهنية فحسب، بل تحوّلت إلى معادلة استراتيجية ذات أبعاد جيوسياسية، خصوصاً في ظل الحروب غير التقليدية التي تشهدها الساحة الدولية من التضليل الرقمي إلى الهجمات السيبرانية.

أولاً: التحوّل التاريخي للإعلام وأدوات التأثير

شهد الإعلام تحولاً هائلاً من الخطابة والفلسفة إلى البث الرقمي الذكي، ومن الوسائل التقليدية إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي تخترق الحدود وتفرض وقائع جديدة. وقد تزامن هذا التطوّر مع تحوّل الدولة من مجرد كيان جغرافي إلى نظام سيادي معقّد يتأثر ويتفاعل مع بيئة اتصالية لا مركزية.

لقد أصبحت الكلمة أداة ردع، والصورة سلاحاً نفسياً، و"الهاشتاغ" محور معركة. ففي حين كان الأمن القومي يُصان على الحدود، صار اليوم يُخترَق من شاشة هاتف ذكي أو من فيديو مُفبرَك أو من خبر كاذب يُعاد تدويره آلاف المرات في دقائق.

ثانياً: الأمن القومي في المفهوم الموسّع

لم يعد الأمن القومي يُقاس بعديد الجيوش وعتادها فحسب، بل بتماسك المجتمع واستقرار النظام السياسي وقدرة الدولة على حماية سيادتها في الفضاءين الواقعي و الرقمي.

في التفصيل، مكوّنات الأمن القومي هي الأمن العسكري، والردع والدفاع، والأمن السياسي، والسيادة والاستقلال، والأمن الاقتصادي والغذائي، وتأمين الموارد والنمو المستدام، والأمن الاجتماعي، ومنع التفكك والتطرف، والأمن الرقمي، والأمن السيبراني، والأمن البيئي، ومواجهة الكوارث الطبيعية والتغير المناخي.

جميع هذه المقومات، تواجهها باستمرار تحديات جيوسياسية جديدة: وهي التحولات في موازين القوى الدولية، وبروز قوى إعلامية عابرة للحدود تروّج لخطاب مصالحها، وصعود الحروب السيبرانية كأداة لزعزعة الاستقرار. ومن هذه التحديات ما ذكرنا سابقاً ، أي استخدام الإعلام كأداة للضغط الاستراتيجي وتشكيل بيئة الخصم داخل الدولة.

ثالثاً: الإعلام كقوة داعمة للأمن القومي

في إطار إيجابي، يُعدّ الإعلام الوطني المسؤول ركيزة أساسية لتعزيز استقرار الدولة، وذلك من خلال:

- بناء الوعي المجتمعي، بنشر ثقافة الانتماء وتحذير المواطنين من التهديدات.

- مواجهة الشائعات، عبر التحقق والتدقيق وتفنيد المعلومات المغلوطة.

- دعم السياسات الاستراتيجية، بتفسير القرارات السيادية وتعزيز شرعيتها الشعبية.

- التعامل مع الأزمات، بإيصال رسائل الطمأنة وإدارة الوعي العام.

- مكافحة الإرهاب الرقمي، بكشف أساليب التجنيد والخطاب المتطرف.

رابعاً: الإعلام كأداة تهديد للأمن القومي

وفي اطار سلبي، عندما ينحرف الإعلام عن رسالته، يتحوّل إلى سلاح يهدد الاستقرار الوطني، على سبيل المثال لا الحصر:

- نشر المعلومات الحساسة، تهديد مباشر للعمليات الأمنية.

- خدمة أجندات خارجية، ضمن حروب إعلامية تستهدف تفكيك المجتمعات.

- تضخيم الأزمات، ما يزرع الذعر ويقوّض الثقة بالمؤسسات.

- استخدام منصات التواصل لأغراض تحريضية، تؤجج الصراعات الطائفية والسياسية.

- الهجمات السيبرانية على المؤسسات الإعلامية، بما يؤدي إلى خلخلة السردية الرسمية.

خامساً: الإعلام والبيئة الجيوسياسية

تتجاوز العلاقة بين الإعلام والأمن القومي البعد المحلي لتتداخل مع مصالح الدول الكبرى. ففي ظل التنافس الأميركي - الصيني، والحرب الروسية - الأوكرانية، وتصاعد الدور الإيراني - الإسرائيلي في الشرق الأوسط، بات الإعلام ميداناً لحروب باردة ساخنة، تخاض فيها المعارك بالوقائع والمصالح والمعلومات بدلاً من الأسلحة التقليدية.

لبنان نموذجاً

في ظل هشاشة المؤسسات والانقسامات السياسية، يجد الإعلام اللبناني نفسه عرضة للاختراقات من أطراف دولية وإقليمية تُغذي الانقسامات الداخلية أو تُوظف المنصّات الإعلامية ضمن صراعات إقليمية أوسع، وهنا، يتحوّل الإعلام إلى جزء من معركة السيادة.

سادساً: نحو إعلام وطني متوازن

من أجل تحقيق إعلام وطني متوازنٍ لا بد من مراعاة المعايير الأخلاقية المطلوبة. من الضرورة القصوى احترام الحقيقة دون تهويل أو تحريض، وحماية الخصوصية والمعلومات الحساسة. أساسيٌ الالتزام بالقانون والموضوعية، والامتناع عن الترويج للكراهية أو التطرف.

في هذا النطاق، يتضح عدد من التوصيات مثل بناء استراتيجية إعلامية وطنية متكاملة بالتنسيق مع المؤسسات الأمنية، تدريب الصحفيين على التغطية الاحترافية للقضايا الحساسة، وضع أنظمة وسياسات إعلام رقمي تواكب التهديدات السيبرانية.

كما يستحسن تعزيز شراكة الإعلام مع مؤسسات الدولة دون خضوع أو تبعية، ما يساعد على نشر الوعي الإعلامي لدى الجمهور من خلال التربية الإعلامية، وأخيراً تعزيز إنتاج المحتوى الوطني الذي يكرّس الهوية والقيم.

خلاصة القول إنّ الأمن القومي في زمن الأزمات والهشاشة السياسية لم يعد مسؤولية المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وحدها، بل هو معركة نخوضها بالكلمة والوعي والمعلومة. فإما أن يكون الإعلام حليفاً للسيادة الوطنية، أو أن يتحوّل إلى ثغرة تهدد ركائز الدولة.

المعادلة اليوم دقيقة، ويمكن اختصارها بحرية التعبير من جهة والمصلحة الوطنية من جهة أخرى. وبينهما، يحتاج الوطن إلى إعلام مسؤول ووطني ومهني يُدير الأزمات بدل تأجيجها، ويدافع عن الحقيقة بدل بيعها، ويكون شريكاً في صناعة الاستقرار لا منصّة لزعزعته.

* منتجة وكاتبة لبنانية