من الرؤى الرائدة، نتيجة الدراسات والأبحاث في علوم السياسة والمجتمع وفي مراقبة التيارات الاقتصادية والعلمية، يستنتج كبار المفكرين مسارات حتمية ينتهجها البشر بحثاً عن الرخاء والحياة الكريمة. إلا أن القوى المتناحرة على السيطرة على الحجر والبشر ترى الأمور بعين مختلفة. فيضطر هؤلاء المفكرون الى تشخيص الأزمات وطرح الحلول لها.

في كتابه الأخير "القرنُ الواحد والعشرون: عصر يبحث عن هوية"، يطرح الدكتور مناف المدير العام السابق لوزارة الإعلام وفي رئاسة الجمهورية، نظرية جديدة وهي "التكاملية اللبنانية" نموذجاً للتكاملية الشرق الأوسطية، التي تحمل حلّاً يتخطى منظور الدولة ليرسخ وجوده في صميم طيبة الإنسان التي لا تشوبها السياسات العنيفة والتي تنبثق منها قوة التعددية. اخترنا من كتاب الدكتور مناف منصور هذا الفصل بالتحديد لطرحه في منبرنا هذا الأسبوع.

التكاملية اللبنانية نموذج للتكاملية الشرق الأوسطية


التكاملية اللبنانية واقع قبل قيام الدولة. إنها ثمرة اختبارات مديدة. لكن التكاملية مع الدولة تأخذ بعداً مؤسسياً، إنها نمط حياة. هي كالطبيعة اللبنانية التي تشكل مثالا للتآلف التعددي بين الجبل والبحر، بين الريف والمدينة.

التكاملية اللبنانية تبدأ بالتماثل بين اللبنانيين الذي يميز العلاقات بين المجموعات اللبنانية، وتنتهي بالإصرار على اللافراق بينها.

فالموائمة تعكس أن في كل مسيحي لبناني شيئاً من الإسلام، وأن في كل مسلم لبناني شيئا من المسيحية: فالمسيحي اللبناني لا يعترض على زي المرأة اللبنانية المسلمة والمسلم اللبناني يأنف من فرض الزي الإسلامي على المرأة المسيحية اللبنانية. بل لدى العديد العديد من كل المجموعات اللبنانية تشابه في اللباس.

التكاملية اللبنانية تنطلق من واقع أن اللبناني المسلم وأن اللبناني المسيحي هما متساويان في الحقوق والواجبات.

إذاً، التكاملية اللبنانية هي تكاملية سياسية واجتماعية واقتصادية، فكثيرة هي الشركات والمصارف والمصانع والمشاريع التي تقوم على شراكة بين مستثمرين لبنانيين مسيحيين ومسلمين.

أريد أن أشدد على أن التكاملية اللبنانية ليست سراباً بل هي إرادة وقدر:

نجحت في زمن المتصرفية (مسيحي + درزي) في جبل لبنان.

ونجحت في جمهورية الاستقلال (مسيحي + درزي + سني + شيعي)

ونجحت قبلهما في عامية انطلياس الأولى (1820) وفي عامية انطلياس الثانية (مسيحي + درزي + سني + شيعي) لتي أتت بمثابه تأسيس أول ميثاق وطني ( 7 حزيران 1840) وذلك في عهد الأمير بشير الشهابي الثاني رداً على تعسف احمد باشا الجزار ضد لبنان.

وإذا اهتزت التكاملية اللبنانية أيام المحن فبسبب عوامل خارجية: في الستينات العامل الناصري وفي السبعينات العامل الفلسطيني، وفي المراحل اللاحقة راوحت بين العامل السوري والعامل الإيراني والعامل الإسرائيلي.

التكاملية اللبنانية أعمق من التوافق السياسي

في هذا السياق يتبدى أن التكاملية اللبنانية هي أكثر من ظاهرة الوفاق. إنها التزام بالدولة والدستور وبالنهج المؤسسي وإنها التزام بالسيادة والحرية والنأي عن صراعات المنطقة وأزماتها.

منطلق التكاملية اللبنانية الخروج من عقلية المقاولية إلى ثقافة ما يجب أن يكون، الخروج من النزف إلى الإنماء، وبالإنماء يترسخ الانتماء.

أ‌- التنمية. بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والوطنية والإنسانية، هي أكثر من مشاريع استثمارية. إنها برنامج إنتاجي يجسدُ حاجة كل منطقة الى كل المناطق اللبنانية الأخرى ويسهم في الوقت نفسه في تفعيل دور لبنان الداخلي والإقليمي والعالمي في بناء الحضور الإنساني الأرقى.

ب‌- الأمان الاجتماعي ركيزة التنمية حين يقوم على المعادلة التالية:

الازدهار الاقتصادي لا يأتي على حساب الأمان الاجتماعي والأمان الاجتماعي لا يكون عبئا على الازدهار الاقتصادي.

ج- التنمية التربوية والثقافية والإعلامية تتطلب:

* إصلاح مناهج التعليم باتجاه مواكبة العصر وقفزات التطور العلمي والتكنولوجي.

* الانفتاح على الثقافات الإنسانية للمشاركة في الحضور الإبداعي الإنساني في القرن 21.

د- التنمية الوطنية والإنسانية من خلال:

- التحرر من العنصرية والنعورية المذهبية والحزبية.

- العمل دوماً على بناء دولة الكل للكل: كيف ينجح لبنان في أن يؤدي دور صلة الوصل بين الشرق والغرب، وصلة وصل بين الشرق نفسه إذا لا ينجح أولاً في أن يبني دوله تشكل صلة وصل بين اللبنانيين أنفسهم؟

- ليس مقبولاً التعامل مع الخارج على حساب الصالح الوطني العام وليس مقبولا أن ننغلق بزريعة التوهم بصون الصالح الوطني العام.

التكاملية الشرق الأوسطية

إنها مرحلة التحول من عقلية "التسيُّس" الى الثقافة التنموية:

- منطقة الشرق الأوسط عاصفة بالعنف والتطرف، وبالقمع والبطالة، وبالنزوح وهي تحتاج إلى مخطط إصلاحي شامل.

- برامج تنموية تعتمد على تشجيع المبادرة الحرة وتطويرها إلى مبادرة مؤسسية، وتعتمد أيضاً مشاركة المرأة والتأهيل التقني والعلمي، وبناء نظام مصرفي عصري.

- التنمية التربوية والثقافية والإعلامية بالسعي الى ربط التعليم بحاجات المنطقة، وروح العصر بدءاً من برامج مكافحة الأمية وانتهاءً إلى المشاركة في بناء الحضور الثقافي الإنساني وهذا يستدعي:

- تدريب مهارات الاضطلاع بالمعضلات وبمعالجتها.

- تدريب مهارات جودة العمل

- تدريب مهارات تحقيق الذات.

- تدريب مهارات العيش جميعاً ومعاً.

آن الأوان أن ينتقل الشرق الأوسط من بركان نزف إلى شريك في صنع القرن الواحد والعشرين

كما يقتضي التركيز في موضوع المناهج على:

- الدراسات المالية والمصرفية والاقتصادية ونفحها بحدٍّ من الثقافة الأدبية والفنية والفلسفية.

- التزود بالتربية الصحية، وبالمعارف البيئية والتاريخية والجغرافية.

- الدراسات الإدارية والتنظيمية والمعلوماتية وتطعيمها بثقافة لغوية ورياضية وفيزيائية.

- الدراسات القانونية والقضائية وتطعيمها بالثقافات الأدبية والفنية.

في هذا السياق يقتضي التوجه إلى استعماق الدراسات المقارنة بهدف تشكيل تربية مدنية جامعة وذلك يتطلب:

- وعي الخصوصيات الحضارية لشعوب الشرق الأوسط وثقافتهم.

- وعي الجوامع المشتركة.

-وعي المميزات اللغوية والثقافية والاجتماعية والمناخية التي تطبع شعوب الشرق الأوسط ومناطقه.

آن الأوان أن ينتقل الشرق الأوسط من بركان نزف إلى شريك في صنع القرن الواحد والعشرين، وذلك بتطوير آليات الإنتاج الاقتصادي والاستثماري بدءاً من تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوسيع أعمال المؤسسات العملاقة، وانتهاءً بتطوير آليات الحكم والإدارة والقضاء ومكافحة التهريب وتبييض الأموال بالتوازي مع توسيع آليات الإدارات المدنية والهيئات الاجتماعية.