بعد تسلمه مفاتيح مصرف لبنان في الرابع من نيسان، دخل كريم سعيد وأقفل وراءه الباب. المرحلة ستكون للمراقبة والعمل بصمت بعيداً عن المقابلات، قال الحاكم الأصيل في خطاب التسلم والتسليم. والتواصل مع الجمهور سيكون عبر البيانات المكتوبة والتقارير الاقتصادية. وبالفعل لم يطل الانتظار حتى أصدر سعيد تعميماً وسيطاً ينقض فيه قرارات سلفه بالوكالة. فهل من مبررات تقنية لإجراءات سعيد السريعة؟ أم أنها بوادر "معركة" إثبات وجود تمهد لاقصاءات جذرية في استحقاق تعيين نواب الحاكم في العاشر من حزيران القادم؟
في 14 نيسان الحالي أصدر المصرف التعميم الوسيط رقم 734 (القرار 13717) الذي عدّل بموجبه بعض البنود الواردة في التعميم الوسيط السابق رقم 733 (القرار 13716)، الموقع من الحاكم بالانابة وسيم منصوري قبل أقل من شهر. وبالتفاصيل، يُلزم هذا التعميم الجديد المصارف بالحصول على موافقة مسبقة من المصرف المركزي قبل تداول الأسهم المدرجة في بورصة بيروت، وسندات اليوروبوند، وغيرها من الأوراق المالية بالدولار المحلي. كما ألغى التعميم البند الذي ينص على ضرورة حصول المصارف على موافقة مسبقة لبيع سندات اليوروبوند في الخارج، التي وردت في التعميم 733.
قيود استثنائية على بعض العمليات
من حيث الشكل تبدو "الأجواء بين الحاكم ونائبه الاول وسيم منصوري غير مريحة"، برأي خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. "وخصوصاً أن منصوري ليس نائباً أولاً مخضرماً منذ عهد الحاكم رياض سلامة فحسب، إنما كان حاكماً بالانابة ناجحاً في فترة فراغ سدة الحاكمية. وقد ارتاحت لأدائه الاسرة الدولية، وحازت سياسته على رضى المواطن والقطاع المصرفي". أما في المضمون فإن "قرار المصارف بتسييل جزء من محفظة الأدوات المالية التي يمتلكها كل مصرف، مثل سندات الخزينة أو سندات اليوروبوندز، يتطلب إبلاغ لجنة الرقابة على المصارف، ولاسيما إن كان ما يتم تسييله هو من ضمن استراتيجية إدارة المخاطر. إذ يطلب من المصرف سنويا تقديم سياسة استراتيجية لإدارة المخاطر". بمعنى تبرير كيفية توزيع السيولة المتوفرة بين الإيداعات لدى مصرف لبنان أو شراء اليوروبوند أو سندات خزينة أو إيداعات لدى مصارف غير مقيمة، أو خلافه من التوظيفات. و"يفترض أن يبلغ المصرف لجنة الرقابة على المصارف في حال كان المصرف يتصرف من ضمن هذه الخطة"، يضيف فحيلي. "أما في حال الخروج عن هذا الإطار، فيتطلب الأمر موافقة اللجنة". وعليه فان "العودة إلى جذور الأسباب الموجبة في التعميمين المذكورين يظهر تشابهاً كبيراَ، ولا يحمل الكثير من التناقض" برأي فحيلي.
دور لجنة الرقابة على المصارف
أبعد من قرارات مصرف لبنان يعتبر فحيلي أن "المشكلة التاريخية كانت استئثار مصرف لبنان بصلاحيات لجنة الرقابة على المصارف في العديد من المحطات. وهو الأمر الذي يتطلب تغييراً بالنهج في هذه المرحلة، نظراً للدور المهم والكبير الذي يجب أن تلعبه الهيئات الرقابية". إجراءات المصارف تؤذي المودعين وتبتعد في الكثير من الأحيان عن أصول العمل المصرفي، ولاسيما لجهة العمولات التي تفرضها، وتقييد السحوبات، وتجاوز القرارات، ونقل الحسابات، وعدم استلام الاموال من المقترضين الذين سددوا بموجب شيكات ووضعوها لدى الكتّاب العدل".
اليوروبوندز ممنوعة من البيع
أما بخصوص التعميم 734 بضرورة استحصال المصارف على موافقة مصرف لبنان لبيع سندات اليوروبوندز فان "التفسير المنطقي، ويمكن الوحيد هو الرغبة بعدم إعطاء حاملي سندات اليوروبوندز في الخارج قوة تفاوضية إضافية من خلال تمليكهم المزيد من السندات"، من وجهة نظر فحيلي. المصارف اللبنانية باعت الجزء الأكبر مما تحمله من سندات في بداية الازمة من أجل تأمين السيولة النقدية من جهة، وتجنباً لأخذ مؤونات بنسبة 75 في المئة عليها كان قد فرضها مصرف لبنان. وعليه تراجعت قيمة سندات الدين بالعملة الأجنبية "يوروبوند" من حدود 11 مليار دولار عشية الانهيار، إلى مليارين و470 مليون دولار في شباط الفائت، وتمثل القيمة الاسمية. أما القيمة الفعلية فهي أقل بكثير وهي تناهز 420 مليون دولار إذا ما اعتبرنا أن سعر السند الفعلي هو 17 سنتا للدولار في ذلك الوقت. واليوم ومع تأجيل التفاوض على اعادة هيكلة الدين الخارجي وفي ظل عودة أسعار السندات الفعلية للارتفاع نسبياً فإن المصارف قد تعمد إلى تسييل ما تمتلك من سندات، ما يتيح لها تحرير المؤونات المجمدة والحصول على سيولة هي في أمسّ الحاجة إليها في عملية زيادة رأسمالها. ومنعاً لتمليك الاجانب الذين باتوا يحملون حوالي 22 مليار دولار من سندات الدين بالعملة الأجنبية أتى قرار مصرف لبنان بهذا الاطار.
أصول وخصوم المصارف
على الصعيد المصرفي العام تبين أرقام الميزانية العمومية الموحدة للمصارف التجارية اللبنانية، انخفاض إجمالي الأصول بنسبة 1.20 في المائة على صعيد سنوي لتصل إلى 102.87 مليار دولار أمريكي في شباط 2025، وذلك في ظل اعتماد مصرف لبنان سعر صرف جديدًا قدره 89,500 ليرة لبنانية للدولار الأمريكي اعتباراً من نهاية كانون الثاني 2024.
لجهة المطلوبات، فقد شكلت ودائع العملاء المقيمين الحساب الرئيسي، حيث مثلت 65.29 في المئة من إجمالي الخصوم. وقد عوض ارتفاع الودائع بالليرة بنسبة 52.5 في المئة لتصل إلى 800 مليون دولار، التراجع في الودائع بالدولار للمقيمين التي قاربت 66.3 مليار دولار. أما بالنسبة لودائع العملاء غير المقيمين، والتي تُمثل 20.35 في المئة من إجمالي المطلوبات، فقد سجلت انخفاضاً بنسبة 0.10 في المئة فقط، وبلغت 20.94 مليار دولار أمريكي في شباط 2025. وعليه فإن حجم الودائع في القطاع المصرفي بلغ لغاية شباط 2025 حوالي 88.1 مليار دولار.
بالاضافة إلى الحد من بيع سندات الدين بالعملة الأجنبية، من شأن إلزام المصارف الحصول على الموافقة المسبقة قبل تداول الأوراق المالية بالدولار المحلي الحد من المضاربة وتسييل الودائع بغير قيمتها الحقيقية. وفي الأمرين إيجابية قد تكون لمصلحة الموقع والاقتصاد.